إنّ البحث في مفهوم النص يضعنا أمام حقل معرفي بالغ التشعّب والثراء، إذ يتوزّع بين مدارس لسانية متباينة، ورؤى فلسفية ونقدية متداخلة، لا تكاد تلتقي على أرضية موحّدة، فالنص لم يعد مجرّد امتداد للجملة أو وحدة تركيبية كبرى، بل غدا فضاءً متشابكاً، تتقاطع فيه اللغة مع الخطاب، والدلالة مع السياق، والوظيفة مع البنية، وكشفت المحاولات التي سعت إلى ضبط مفهومه عن قصور واضح في استيعاب شموليته، إذ ظلّت معظمها محكومة بفلسفة الجملة، لا بفلسفة النص في امتداده الواسع، ومن هنا تبرز الإشكالية: كيف يمكن تحديد النص بما يراعي استقلاليته، وانغلاقه من جهة، وانفتاحه على التداخل النصي وتعدد الأصوات من جهة أخرى؟.
إنّ النص في هذا الأفق ليس كياناً أحادياً ذا بنية مغلقة، بل هو نظام علائقي، ديناميكي، متعدد المستويات، يُعاد إنتاجه باستمرار عبر جدلية البنية والمعنى والسياق، وهو - كما تصوّره تودوروف وكرستيفا وغيرهما - جهاز لساني يعيد توزيع نظام اللغة، ويشكّل في الوقت ذاته جسداً من الطبقات الدلالية والثقافية والاجتماعية التي تتراكم وتتداخل، بحيث يصبح النص مولوداً لأكثر من نسب، ومجالاً خصباً لإعادة صياغة العلاقة بين اللغة والمعرفة والفكر.
ونظراً لتشعب هذا العلم فإن اتجاهات البحث فيه «أخذت أشكالاً عدة، وذلك تبعا للأسس التي يستند إليها علماء علم اللغة النصي، فنجد - مثلاً- اتجاها يعتمد على رصيد علم اللغة الوصفي، ولكن بعد إضافة عدد من المفاهيم والتصورات الجديدة إليه، حتى يمكن معالجة المستوى الأكبر الذي يمتاز به هذا العلم - أعني مستوى النص- ونجد اتجاها آخر يستند إلى رصيد علم اللغة الوظيفي، وثالثا يقوم على رصيد علم اللغة التركيبي أو البنائي، ورابعا على رصيد علم اللغة التحويلي التوليدي... ومما لا شك فيه أن ذلك التشعب قد جعل من مهمة تحديد ما توصل إليه هذا الفرع الجديد مهمة صعبة، إلى جانب كثير من المشكلات التي يضمها هذا الاتجاه بين جنباته، وأكثر المشكلات وضوحا مشكلة (المصطلح) الجوهري الذي يقوم عليه».
ثم اتجهت الدراسة إلى توسيع الرؤية لتشمل النص كله وما يلازمه، حال أدائه من اعتبارات سياقية، وهذه النظرة الموسعة في التحليل رفضت كذلك أي تعريف للنص ينظر له من زاوية منفردة، كان يعتمد في تعريفه على مكوناته الجملية وتتابعها، ونستطيع أن نفترض أن كل التعريفات الخاصة بالنص في هذا الإطار انطلقت من فلسفة الجملة، وليس من الفلسفة الموسعة (للنص) فلم ينس هؤلاء تراثهم الممتد الذي يحافظ على مفهوم وحدة الجملة الجزئي، لذا لزم البحث عن أساس جديد يمكن به وضع تعريف للنص يتماشى مع الرؤية المطروحة في البحث عن الدلالة، فالنص رسالة لغوية تشغل حيزًا معينًا، فيها جدلية محكمة مضفورة من المفردات والبنية النحوية، وهذه الجدلية تؤلف سياقا خاصا بالنص نفسه (عالم النص)، فينبغي إذاً أن يكون لكل نص هدف وبناء محكم وسياق. ومن ثم لا ينبغي أن نصف بناء ما بالنصية ما لم نجد خاصيته المهمة، وهي وروده في الاتصال.
ويمكن افتراض أن كل التعريفات الخاصة بالنص انطلقت من فلسفة الجملة وليس من الفلسفة الموسعة للنص، كما أنها جعلت من النص رسالة لغوية تشغل حيزا معينا، فيها جدلية محكمة تتضمن المفردات والبنيـة النحوية، وهذه الجدلية تؤلف سياقا خاصا بالنص نفسه (عالم النص)، فينبغي إذاً أن يكون لكل نص هدف وبناء محكم وسياق يؤدي به إلى إحكام عملية الاتصال.
ويرى بعض الباحثين أن (النص) نظام جاف، أو تضميني، وذلك لأنه نظام ثان بالنسبة إلى نظام أساسي للدلالة، «فنحن حيـن نحلل (الجملـة) نميز بين مقومات صوتية، وتركيبية، ودلالية، وكذلك نحن نميز مثلها في (النص)، دون أن تكون مـن نفس المستوى، أي لا يكون لهذه المقومات المختلفة نفس القيمة في تحليل النص، إذ سيترتب عليها أنماط من التحليلات المتباينة، فهناك بالنسبة إلى (النص) مظاهر أو وجوه: صوتية/ وتركيبية/ ودلالية/ ولكل مظهر منها (إشكاليته)، إذ هو يؤسس أحد الأنماط الكبرى لتحليل النص: التحليل البلاغي، أو السردي، أو المعلوماتي».
أما حين ننتقل إلى تودوروف فإنه يبدأ مقالته عن النص في مؤلفه: (القاموس الموسوعي لعلوم اللغة) بقوله: «تجد الألسنية بحثها بدراسة (الجملة).. ولكن مفهوم النص لا يقف على نفس المستوى الذي يقف عليه مفهوم الجملة، أو القضية، أو التركيب، وكذلك هو متميز عن الفقرة التي هي وحدة منظمة من عدة جمل» ثم يقول: «النص يمكن أن يكون جملة، كما يمكن أن يكون كتاباً بكامله» وإن تعريف النص يقوم على أساس استقلاليته وانغلاقيته، وهما الخاصيتان اللتـان تميزانه، فهو يؤلف نظاماً خاصاً به، لا يبرر تسويته مع النظام الذي يتم به تركيب الجمل، ولكن أن نضعه في علاقة معه، هي علاقة اقتران، وتشابه».
ثم نشهد تحولات النص مع جوليا كرستيفا فالنص الأدبي عندها خطاب يخترق وجهة العلم والإيديولوجيا والسياسة ويتنطع لمواجهتها وفتحها وإعادة صهرها من حيث كونه خطاباً متعدداً، ومتعدد اللسان أحيانا ومتعدد الأصوات غالبا من خلال تعدد أنماط الملفوظات التي يؤديها، ويقوم النص باستحضار كتابة ذلك البلور الـذي هو محمل الدلالية، المأخوذة في نقطة معينة من لا تناهيها، أي كنقطة من التاريخ الحاضر حيث يلح هذا البعد غير المتناهي.
من هذا المنظور، يتحدد لنا النص «كجهاز لساني» يعيد توزيع نظام اللسان بواسطة الربط بين كلام تواصلي يهدف إلى الإخبار المباشر وبين أنماط عديدة من الملفوظات السابقة عليه، أو المتزامنة معه، فالنص إذن (إنتاجية) وهو ما يعني أمرين - بحسب كرستيفا -:
1 - أن علاقته باللسان الذي يتموقع داخله هي علاقة إعادة توزيع (صادمة بناءة)، ولذلك فهو قابل للتناول عبر المقولات المنطقية لا عبر المقولات اللسانية الخالصة.
2 - أنه ترحال للنصوص وتداخل نصي، ففي فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى.
أما كولنج فقد حدد سمات مفهوم النص في النقاط الآتية:
- النص موضوع رمزي - علائقي تغلب عليه السمة الكلامية، أو شكل مكتوب يدويا، أو مطبوع في شكل هيئة مادية.
- العناصر المعجمية في النص الرمزي - العلائقي الذي تسيطر عليه السمة الكلامية هي العناصر المسيطرة التي تحمل المعنى.
- النصوص هي عناصر الاستعمال اللغوي، وليست ضمن نطاق النظام اللغوي.
- هناك تمييز بين نصوص كاملة الاستقلالية والنصوص المستقلة جزئيا.
- تحقق النصوص الرمزية - العلائقية ذات الصبغة الكلامية معايير النصية إذا احتُرمت التوقعات بأن يعبّر- الموضوع في حالة تخاطبية معطاة أو مفترضة في شكل متصل (وتام) لحالة من الحالات، وتحقق وظيفة تخاطبية معطاة أو مفترضة، وله ترکيب کلامي متصل وكامل.
من هذا المنطلق فإنه من العسير تحديد ماهية النص وأبعاده الاصطلاحية، وذلك لتنوع الاتجاهات وتعدد الرؤى، إضافة إلى كونه شحنة انفعالية محكومة بضوابط لغوية وقيم أخلاقية ومرجعيات ثقافية وخصائص اجتماعية. غير أن بعض المنظرين للمعرفة الأدبية واللغوية والفلسفية زهدوا في صنع تعريف ظاهر للنص، حتى اتسع مفهومه وتشعب حقله تشعبا تجاوز أي حقل معرفي آخر، فأصبح النص كيانا منسوجا من الملصقات والإضافات، إنه جسد من علقات مختلفة، بل إنه لعبة متفتحة ومنغلقة في الوقت ذاته، ولهذا السبب فمن المحال أن تكتشف النسب الوحيد والأولي للنص، ذلك أن النص مولود لأكثر من أب، فليس للنص والد واحد بل مجموعة من الأقارب والأنساب والآباء، تتشكل على هيئة طبقات جيولوجية يصطف بعضها فوق بعض، وتتراكم أتربة فوق أتربة مشكلة طبقة رسوبية وكل طبقة من طبقاته تنتمي إلى عصر معين دون غيره.
** **
- أ.د. محمد بن عبد العزيز العميريني