ولد أحمد بن عبد الله بن سليمان التَّنوخي المعري، أبو العلاء، في معرَّة النعمان، وأتقن علوم اللغة، وعلوم الدين، وتبنى نظرة عقلانية ناقدة، وقد أطلق عليه بعض الباحثين فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة، كما نعته آخرون بالفيلسوف الأخلاقي، وسُميَّ رهين المحبسين: محبس العمى، ومحبس العزلة.
لم يكن المعري شاعراً فحسب، بل كان فيلسوفاً متفرداً، اختار العزلة تعبيراً عن موقف وجودي، ينبع من رؤية متشائمة، وقد لخّصَ فلسفته التشاؤمية في قوله:
هذا ما جناهُ عليَّ أبي
وما جنيتُ على أحد
كما فضَّل الانكفاء على ذاته، فقد كانت عزلته مظهراً من مظاهر فلسفته الأخلاقية، وتجسدت هذه العزلة في حياته، وسلوكه، وأدبه، وتكشفت عن شخصية عميقة، واعية، ترى في العزلة حرية، لا قيداً، وعزلته مزدوجة: عزلة جسدية، وعزلة فكرية.
وقد كانت فلسفته متقدمة على عصره، واتسمت بروح نقدية عقلانية، وجرأة نادرة، ورغم ذلك لم يكن يدعو للتمرد، بل كان يدعو للزهد، والتأمل، والاعتزال، مما جعله رمزاً للتفكير الحرّ في تاريخنا العربي.
اعتزل المعري الناس في بيته في (معرَّة النعمان) قرابة أربعين عاماً بعد أن عاد من بغداد، ولم يغادر داره إلا نادراً، وتعدّ فلسفة العزلة عنده من أبرز ملامح فكره وسلوكه، ولم يكن اعتزاله عن الناس كرهاً لهم، بل رفضاً للمنظومة الاجتماعية برمتها، وصاغ ذلك في شعره ونثره، وعبَّر عنه بوضوح، من ذلك قوله:
أَرى بَشَراً عُقولُهُم ضِعافٌ
أَزالوها لِتُعدَمَ بِالخُمورِ
أَبانوا عَن قَبائِحَ مُنكَراتٍ
فَدَع ما لا يُبينُ مِنَ الأُمورِ
وَعاشوا بِالخِداعِ فَكُلُّ قَومٍ
تُعاشِرُ مِن ذِئابٍ أَو نُمورِ
إِذا ضَحِكوا لِزَيدٍ أَو لِعَمرٍ
فَإِنَّ السَمَّ يُخَبَّأُ في العُمورِ
كان زهد المعري جزءاً من عزلته، فقد جعل من نفسه أنموذجاً للإنسان الزاهد، الذي يترفع عن الشهوات المادية، ورفض التمتع بمباهج الدنيا، فامتنع عن أكل اللحوم، يدفعه إلى ذلك دافع إنساني، يقوم على تجنب الأذى، والشفقة على الكائنات، وعدم إيذاء الآخر.
وقد مارس المعري في عزلته نقداً جريئاً عقلانياً للمجتمع، والدين، والعادات، فكان متأملاً يحفر في الأسس الفكرية للعقائد، والعادات، والمجتمع، وقد جاء في اللزوميات كلام كثير في نقد المجتمع، والتحذير من الدنيا، وشقاء العقل في الحياة، حتى صار يردد:
فيا موْتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذَميمَةٌ
ويا نَفْسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازِل
ويقول:
حَياةٌ عَناءٌ وَمَوتٌ عَنا
فَلَيتَ بَعيدَ حِمامٍ دَنا
ومع هذا الموقف اليائس نجد في اللزوميات حباً للدنيا مكبوتاً، ورهبة من الموت، ولا أجد هذا يتنافى مع دعوته البائسة: فيا موْتُ زُرْ؛ لأن هذه هي حقيقة كل نفس إنسانية تتصارع في داخلها رغبات شتى.
والعزلة عنده ليست انغلاقاً على الذات، بل هي موقف أخلاقي ضد ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وضد قوانين المجتمع التي تنتج القسوة والتعصب، ولذا رأى نفسه مختلفاً عن الناس، رافضاً لسلوكهم، يقول:
وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ
لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائل
وأغدو ولو أنّ الصّباحَ صوارِمٌ
وأسْرِي ولو أنّ الظّلامَ جَحافل
دعا إلى استخدام العقل وإعماله كأداة للحكم على الأشياء، فرأى أن العقل هو المركز والأساس في الوصول إلى الحقائق، يقول:
يَرتَجي الناسُ أَن يَقومَ إِمامٌ
ناطِقٌ في الكَتيبَةِ الخَرساءِ
كَذَبَ الظَنُّ لا إِمامَ سِوى
العَقلِ مُشيراً في صُبحِهِ وَالمَساءِ
فَإِذا ما أَطَعتَهُ جَلَبَ ال
رَحمَةَ عِندَ المَسيرِ وَالإِرساءِ
وتتقاطع الرؤية الفلسفية عند أبي العلاء المعري الفيلسوف العربي، مع الرؤية الفلسفية للفيلسوف الألماني (آرثر شوبنهاور)، فكلاهما تبنى العزلة نمط حياة فلسفي، يعكس رفضاً واعياً للواقع الإنساني، وسعياً نحو تطهير الذات من شوائب العالم، وعلى الرغم من اختلاف البيئة والثقافة، فإن المعري وشوبنهاور يلتقيان في نظرة وجودية تشاؤمية ترى في الحياة معاناة، وتدعو إلى الزهد والرحمة، والانفصال عن الرغبات، كأساس للأخلاق، لكنهما يختلفان في المنهج والسياق، وبعض التفاصيل الفلسفية الجوهرية.
كانت عزلة شوبنهاور عزلة تأملية عقلية؛ فقد عاش بعيداً عن المجتمع الصاخب، محتقراً صراع البشر على اللذات، ورأى أنّ الحكمة لا تنمو إلا في عزلة، وأنّ الانفصال عن الآخرين يمنح الإنسان نقاء وصفاء.
لقد مثلت العزلة عند المعري وشوبنهاور موقفاً فلسفياً عميقاً، يعكس تشاؤماً معرفياً وأخلاقياً من طبيعة الوجود الإنساني، كلاهما نظر إلى العالم بعين ناقدة، وفضَّل الانسحاب عن الانخراط في مجتمع لا يثق به، ومع ذلك لم تكن عزلة صامتة، بل عزلة ناطقة، أنتجت فكراً حيَّاً، لا يزال يُلهم المتأملين والناقدين.
وبهذا يمكن أن نعدّ المعري، الفيلسوف العربي الذي سبق الغرب في هذه المسألة، من خلال دعوته إلى تحرير العقل، والإيمان بالعقل أداة لتخليص الإنسان من أوهامه ومن حيرته، والذي يميز المعري أنه لم يتأثر بمذهب فلسفي محدد، وإنما كانت أفكاره نابعة من تأملاته الفلسفية الممزوجة بالحالة الشعورية.
تعد عزلة أبي العلاء المعري واحدة من أكثر التجارب الفكرية أصالة في ثقافتنا العربية، ولم تمنعه العزلة من الإبداع، فقد كتب في عزلته أعظم أعماله وترك أثراً ضخماً في الفكر والأدب.
لقد منحته العزلة عمقاً فكرياً، ورؤية نقدية، مكنته من التفكير بحرية، كما منحتْ فلاسفة كبارا أيضاً، ومنهم شوبنهاور الذي ترك أثراً كبيراً في الفلسفة الغربية.
** **
- د. أسماء بنت صالح المبارك