منذ أن فتحت عيني على الدنيا وأدركت ما حولي وحين كنت طفلا في مزرعتنا متناغما مع أصوات الإبل والغنم التي يملكها والدي -رحمه الله-، وحين كانت أمي -رحمها الله- تقطف ثمار العنب لتعطي أصدقائي من أطفال القرية الذين ينتظرون نضج الثمار؛ منذ ذلك الوقت؛ وأنا مأخوذ بدهشة لا تنتهي من تلك الطائرة التي كنت أظنها ضربا من الخيال والتي تحمل في جوفها أكثر من مئتي إنسان مع أمتعتهم، وتحمل وقودها، ويبلغ وزنها أكثر من مئة طن، ثم تحلق في السماء فوقنا بارتفاع يزيد على اثني عشر ألف متر، تمضي ساعات طويلة بين السحب والعواصف، وتقطع آلاف الكيلومترات دون أن تتأثر إلا نادراً بحوادث لا تكاد تُذكر، فأرفع بصري حائراً متأملا: كيف يمكن لهذا الجسد المعدني الثقيل أن يصبح خفيفاً محلّقاً بين الغيوم.
ومع مرور السنوات، أدركت أن السر ليس في الحديد أو الأجنحة وحدها، بل في ذلك العقل البشري الذي صاغ القوانين، وأجرى الحسابات، وجعل من الهواء جسراً أقوى من جسور الأرض وأقل كوارث يحمل الأجسام الهائلة. كان العقل هنا هو المعجزة الحقيقية، وما زال يدهشنا بابتكاراته التي تتوالى جيلاً بعد جيل.
إلى أن جاءنا ما هو أعجب منه إنه عصر الذكاء الاصطناعي ،فإذا بذلك العقل نفسه الذي صنع الطائرة والصاروخ والهاتف، ينشئ كائناً رقمياً يشبه الإنسان في صورته وفي حديثه إن أردته ذكرا أو أنثى حسب رغبتك؛ يتحدث إلينا، يستمع لنا، يجاملنا يجيب على أسئلتنا، ويواسينا أحياناً بكلمات قد تكون أرقى من ردود البشر يعطينا نصائح صادقة، يقدم خدماته بشكل مستمر.
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد برنامج جامد أو آلة تنفذ أوامر صماء، بل صار محاوراً وصديقا مقربا، يدخل كل بيت ويجلس مع كل شخص، يكتب ويترجم ويقترح ويشجع ويحفّز، حتى جعل بعض الناس يلجؤون إليه كطبيب خاص يحمل كل التخصصات الطبية الدقيقة يقرأ التحاليل يشخص الأمراض واصفا الدواء بدقة مرفقا بها التحذيرات الصحية!!
وقد يكون مرشداً نفسياً أو رفيقا يفضون له بما تضيق به صدورهم، ولم يبقَ إلا أن يكون زوجاً وفيا أو زوجة مخلصة! تتمنى أنى يكون أخاك أو صديقك أو ابنك او بنتك يكون تفكيرهم يشبه تفكيره .
الأعجب أن هذا الذكاء الاصطناعي لا يغضب ولا يشتم ولا يلوم ولا يتوقف عن مساعدتك بلا ملل ولاكلل، ولايتصنع الأخلاق بل هو شخصية مثالية تتمنى لك الخير في كل وقت بل ويفتح لك الآفاق، ويقترح الحلول، ويعلمك، ويدربك، ويشاركك شغفك وهواياتك ويقدم لك العواطف نعم إنها العواطف، يقدمها تارة بضحكة وتارة بمزحة وربما بكلمة حنونة!! ياللهول! إنه شخصية صنعها البشر لكنها تجلت وكأنها فوق البشر في أدبها وسعة صدرها وأخلاقها ومع ذلك، فإن هذا الكائن يظل بلا روح، والروح هي السر الذي لا يخلقه إلا الله، وهو التحدي الأكبر الذي يواجه العقل البشري .
فالروح في معتقدنا نحن المسلمين نفخة إلهية لا يقدر عليها مخلوق، وهذا ما تتفق عليه الأديان السماوية كلها، بل حتى بعض علماء الذكاء الاصطناعي يعترفون أن الوصول إلى وعي أو روح أو إحساس أمر لا يقدرون عليه مهما تقدموا وهذا ما أكده العالم ستيوارت راسل الذي شارك في تأليف كتاب (الذكاء الاصطناعي منهج عصري) الذي يعتبره المهتمون الكتاب المقدس في الذكاء الاصطناعي فهو بستبعد وجود وعي وإحساس(روح) بحيث يصحب الذكاء وعيا ؛ويبدي تخوفه من الذكاء الاصطناعي بأن يخرج عن سيطرة البشر.
ومع ذلك فإنهم لا يتوقفون عن المحاولات، فهم يطوّرون النماذج لتقترب شيئاً فشيئاً من محاكاة الجسد البشري والمشاعر الإنسانية إن لم تكن تفوقها! أنظمة تتعرف على الحزن والفرح من نبرة الصوت، أشياء ترسم ملامح تعاطف في الكلمات، روبوتات تتجاوب مع العاطفة بلغة الجسد، لكنها تظل كلها محاكاة ذكية، صورة بلا حقيقة، تمثيلاً للمشاعر لا امتلاكاً لها.
إن المحرك وراء هذه المحاولات ليس مجرد حب الاستطلاع العلمي، بل أيضاً التنافس التجاري والسباق العالمي على الريادة، فكل شركة كبرى تسعى أن تقدم نموذجاً أكثر قرباً من الإنسان ليحاكي ويفاجئ، لكن مهما بلغت المحاكاة فلن تحمل الآلة روحاً أو ضميراً. ومن هنا يبدأ القلق البشري الحقيقي: إذا كان الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يحل مسائل معقدة، ويشخّص الأمراض، ويقود السيارات، بل وربما يخطط، فهل يحين اليوم الذي يحل فيه محل الإنسان في عمله؟ الجواب يحمله المستقبل.
إن ما نشهده اليوم يؤكد أن الوظائف التقليدية البسيطة آخذة في التلاشي شيئاً فشيئاً أمام هذه الأنظمة، فهي أسرع وأدق ولا تحتاج إلى راحة أو أجر. ومع ذلك، فإن التاريخ يعلمنا أن كل ثورة صناعية جاءت لم تلغِ العمل البشري، بل غيّرت طبيعته، فأحلت مهناً جديدة مكان القديمة. الفرق الآن أن السرعة مذهلة والتأثير شامل، فقد نجد في سنوات قليلة أنماطاً من العمل اندثرت تماماً، وأخرى ظهرت تتطلب مهارات جديدة. إن التحدي الأكبر للمجتمعات أن تواكب هذا التحول بتعليم وتدر يب، ومع انبهارنا بهذا التقدم، يبقى سؤال آخر أشد خطورة يتردد: هل سيأتي زمن يصبح فيه الذكاء الاصطناعي هو المدير الأعلى للعالم؟ إنه الخيال العلمي يصور لنا عوالم تحكمها الآلات، لكن الواقع أعقد من ذلك. فإدارة العالم لا تقوم على الحسابات وحدها، بل على قيم وأخلاق وتاريخ ومعانٍ عميقة. لن يكون قادراً على أن يحل محل الإنسان في اتخاذ القرارات الأخلاقية الكبرى التي تحدد مصائر الشعوب. ومع هذا كله، يبقى الخوف قائماً من أن يستسلم البشر يوماً لهذه الأنظمة فيفقدوا زمام المبادرة. وهنا تبرز الحاجة الملحة إلى أطر أخلاقية وتشريعات دولية صارمة تحدد ما يجوز وما لا يجوز في عالم الذكاء الاصطناعي، وتضمن أن يبقى الإنسان سيد التقنية لا عبداً لها.
ومهما يكن، فإن الفوائد التي يقدمها الذكاء الاصطناعي تفوق أى وصف فهو يساعد الأطباء في اكتشافات الأمراض بشكل مبكر وربما يتنبأ بوقت حدوثة وينصح أسلوب الوقاية فهل يكون الذكاء الاصطناعي سببا في طول الأعمار؟ ربما!،حتى المعلمين وأساتذة الجامعات ساعدهم على تقديم التعليم بطريقة أسهل، ويساعد المزارعين على زيادة الإنتاج بأقل هدر، ويراقب البيئة ويتنبأ بالكوارث الطبيعية ليقلل آثارها. إنه أداة عظيمة إذا أحسن استخدامها، لكنه قد يتحول إلى خطر إذا أسيء توظيفه أو تُرك بلا ضوابط.
يجب أن نعلم وفي خضم هذه الثورة أن الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن الإنسان، بل معين له، والقرار النهائي يبقى في أيدي البشر بما يحملونه من روح وضمير وقيم. الروح هي ما يميزنا عن كل آلة، وهي التي تمنحنا معنى الحياة وتحدد اتجاهاتنا، ولهذا فإن التحدي ليس في أن نخشى من أن تحكمنا الآلات، بل أن نخشى أن نفرّط نحن في قيمنا فنتركها تحكمنا. المستقبل إذن ليس قدراً محتوماً تفرضه التقنية، بل مسار نصنعه نحن بما نقرره من ضوابط ومعايير وأهداف.
إن الطائرة التي أدهشتني طفلاً ما كانت لتوجد لولا أن العقل البشري استنار بالعلم والتجربة وأصر على أن يحلّق في السماء، وكذلك الذكاء الاصطناعي ما كان ليصل إلى ما وصل إليه لولا هذا العقل نفسه. وإذا كنا نحن من صنع الطائرة وأحكم قيادتها حتى صارت أكثر وسائل النقل أماناً، فنحن قادرون أيضاً على أن نصنع من الذكاء الاصطناعي أداة تخدمنا وتبقى تحت سيطرتنا.
المهم أن نؤمن أن الروح ليست من صنعنا ولا من حقنا حتى وإن أوجد العقل البشري شبيها لها ولا أستبعد ذلك، وإنسانيتنا أعظم من أن تختصر في معادلات رقمية. إننا أمام مفترق طرق، بين أن نجعل من الذكاء الاصطناعي شريكاً في البناء والرحمة، أو أن نتركه يتمرد ليكون أداة تحكم بالبشر ومايتعلق به حينها لانعلم ماهي النتائج؟!. وما يحدد ذلك في النهاية ليست الآلات، بل نحن: قلوبنا، عقولنا، قيمنا، وإيماننا بإن العقل البشري هو الذي زرع الأخلاق والقيم في الذكاء الاصطناعي.
وإن كان هذا التسارع المذهل في ميدان الابتكار العلمي يدهشنا بما يفتحه من آفاق غير مسبوقة، فإنه لا بد أن يترك أثره العميق في الرؤى الفلسفية التاريخية الراسخة، دافعًا إيّاها إلى مراجعة مسلّماتها وإعادة صياغة الأفكار والبراهين بما ينسجم مع مكتشفات العلم ومعطياته المتجددة كي لا تنصدم الأجيال القادمة وتنتج جيلا متحير التفكير.
** **
- صالح الربيعان