الوعي هو التنبه وشدة الملاحظة والفطنة وسرعة البديهة لما يستجد ويفاجئ في المعرفة والاستنكار، والحذر والاستشعار، والإدراك المضاد للاستغفال. والأوعية هي كل شيء حافظ لما يحتويه وإن كان ما نحن بصدده فيما يخص توطين المواضع أي الأطلال الجغرافية:
لخولةَ أطلالٌ ببرقةَ ثهمد
تلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهرِ اليدِ
أي مواطن ما ذكر في الشعر مما اعتنى العلماء بتبيان أبقاعه وأصقاعه، وهو ما ألفت فيه المجلدات، واختلفت فيه التعيينات وشغل القدامى والمحدثين، وتنوَّعت الأذكار في تحديد المواقع والمعارك والأشعار والسبل، وتحيّر كثير من المحققين كيف يكون الشاعر من بلد كذا وقبيلة كذا ثم يذكر ما هو نازح عن دياره وليس من أقطاره؟
وما عُقرِتْ بالسَّيْلَحينِ مَطِيَّتي
وبالقصرِ إلا خِشيةَ أنْ أُعيَّرا
فهذا شاعر مضري كان بعيدًا عن أرض العراق، فتهيأت له الأسباب بعد الإسلام حتى ترحل إلى تلك الديار مع بعض قومه وأصبح لهم صولات وجولات، فإذا فهمت الأسباب بطلت الأعجاب وتوجه القارئ إلى معرفة الصواب.
والداعي إلى هذا كله كثرة الأوعية الحاضنة لهذا الفن المزدهر والكنوز المكتنزة تُعادل بالذهب والفضة زنة. وقد اعتنى بها العلماء وجهابذة من الأكاديميين والباحثين على اختلاف جنسيْهم وجنسياتهم تحقيقًا وتدقيقًا حذر التصحيف والتحريف والضبط على التوقيف. وحيث لنا عناية بالمواضع، ومنها بحث بعنوان (الأطلال أكثر موضوعية لحل القضية، طه حسين والشعر الجاهلي بين مؤيديه ومعارضيه)، وكذلك بحث (كندة أثر بعد عين) تريم عام 1432هـ. وكذلك ملتقى الجمعية الجغرافية بوادي الدواسر (ثُعالة بين الخفاء والتجلي)، وملتقى الجمعية التاريخية الذي عقد عن بيشة في كتب التراث بعنوان (بيشة في النصوص الأدبية، سبعة قرون)، والجمعية الأثرية في نجران (الجوار عند العرب) وغيرها مما لم ينشر، ومقالات في الثقافية الغراء، وكذلك صحيفة مكة المكرمة الإلكترونية، وبعض الندوات، وما هو مخطوط، وبحوث مرسلة لم يتحدد موعد نشرها، ومخطوطات تنتظر توطين الخرائط رسمًا وإيقاعاً.
ومدار اشتغالنا على الأوعية المختلفة قديمة وحديثة، ورقية وإلكترونية. وهي متنوعة الترتيب والمداخل والأبواب والمباحث، ومن العُمَد فيها (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع) للبكري (487هـ) ويقع في أربعة أجزاء مضغوطة في مجلدين، تحقيق وضبط: مصطفى السقّا -رحمه الله- نشر عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثالثة 1403هـ-1983م، وقد رتب مؤلفه (البكري) المواضع وفق الترتيب المغربي الألفبائي، غير أن المشكل يكمن في «أنه جعل ترتيب الكلمات في كل باب على ترتيب الحرفين الأول والثاني الأصليين للكلمة، دون النظر إلى ترتيب ما بعدهما من الحروف. وإذا كان الحرف الثلاثي ألفا زائدة، أهمله ولم ينظر إليه» ككلمة صاحب، وقد غيّّر المحقق (السقّا) الترتيب المغربي إلى الترتيب المشرقي، وبالمقارنة بين تحقيق السقّا والنسخة الجديدة من إصدارات كرسي أ.د. عبد العزيز ناصر المانع، إصدار مركز حمد الجاسر الثقافي رقم (41) وشارك في تحقيقه: أ.د. عبد الله بن يوسف الغنيم مع صاحب الكرسي، وهو في مجلدات عديدة، نجد أن المحققيْن عادا بالمؤلَّف إلى ترتيبه الذي رتبه عليه صاحبه مخالفيْن بذلك ترتيب السقّا، الأمر الذي يحدث لبسًا بين التحقيقين، فالأول يغاير ترتيب البكري والآخر يوافقه، مما يجعل الباحث الذي يقارن بين التحقيقين يظن أن الموضع لم يذكر في أحدهما، وأنه حذف من أصله، ما لم يستقرئ الباب استقراء تامًا ثم يصل إلى المعلومة بعد جهد جهيد، وذلك مثل: موضع (بالس) فهو لدى السقا في باب ولدى المحققيْن الآخريْن في باب آخر. وقد ذهب المحققان إلى أن ترتيب البكري كان وراءه سبب خفي، وهو رغبته في أن يجمع المتشابهات إلى جوار بعضها؛ ليدرك القارئ الفرق بينها الأمر الذي فوّته ترتيب السقّا.
إنّ المحافظة على المعالم التراثية سنة متبعة، أحرى بأن تتّبع حتى لا يتغير على القارئ ما ألفه من النسخ المتوفرة، حتى وإن كان تغييرها أفضل وأميز:
إنّ الذوائبَ من فِهْرٍ وإخوتَهم
قد بيَّنوا سُنةً للناسِ تُتّبعُ
وهذا ما استقّر عليه المثل الشعبي (الترك على طموم المرحوم) أي البقاء على البناء السابق. أما وقد عُدل ونفذ فلا لوم، وإنما تبيان للقارئ المعاصر في ما قد لا يدركه إلا الممعن بالنظر في الفوارق المتعددة أسبابها، وهذا التمهيد سوف يتلوه -بإذن الله- تقعيد -تطبيقاً وتحقيقاً- على مواضع مختلفة شُرِّق بها وغُرِّب رصدًا وقصدًا إلا أن القرائن المتعددة والسياقات المتبددة والمواطن والمقاصد المحددة، تردها بالإسناد إلى صواب ينتظم فيه الجواب وعلى المولى للمحقق المصوِّب به الثواب، ولمن اجتهد ولم يصب من الله المغفرة والمتاب، نأمل أن ينتظم ما وعدنا به ونأمله في أعداد قادمة.
** **
تركي بن شجاع بن تركي الخريم - باحث يهتم بالتراث الجغرافي والقبائل.
Turki11_88@