في قلب السودان، حيث تلتقي الأرض بالتاريخ وتتردد أصوات النساء بأغاني الجدات، تتوهّج صناعة السعف كأحد أعرق الفنون الحرفية، حاملة في خيوطها ذاكرة مجتمع وإرث ضارب في عمق الزمان.
من سعف النخيل وجريد شجرة الدوم، تُحاك حياة كاملة تبدأ من البروش وتصل إلى الريكة والقفة، في رحلة يدوية تُشبه قصيدة تنسجها النساء حبًا وذاكرة.
كنت طفلةً تنجذب لعالم الكبار في بيت جدتي، (حبوبتي عَائشة) تلك المرأة التي كانت تنسج البرش كما لو كانت تُطرّز الزمن. بين يديها، يتحول السعف إلى سجادة صلاة، أو سلة طعام، أو فراش زفاف.
تبدأ العملية بتليين الجريد بالماء حتى يصبح طريًا كفاية للضفر، ثم تُثبَّت أطرافه بأوتاد في غرفة هادئة، لتبدأ الأيادي في التفاعل مع خيوط التراث.
أكثر ما كان يدهشني هو كيف تنسج جدتي دون أن تنظر، تحرّكها ذاكرة مشبعة بالصبر والخبرة، وكأن كل خيط في يدها هو خيط من عمرها، وكل لونٍ يحكي فصلاً من حياتها.
لم يكن البرش مجرّد منتج يُباع في السوق، بل كان جزءًا من طقوس الحياة السودانية، ولا سيما (برش العروس) الذي يُطرّز بألوان زاهية، وتُزيَّن أطرافه بشرائط من الفضة أو الذهب، ليتحول إلى منصة طقسية في رقصات الزفاف وذكرى لا تُنسى.
في الأسواق الشعبية، وخصوصاً (سوق السبت)، كانت هذه المنتجات تُعرض بفخر، في مشهد أشبه بالكرنفال، يحكي عن مهارة النساء وحضورهن الثقافي والاجتماعي.
لكل بائعة طريقتها، ولكل برشٍ قصته، ولكل شكلٍ دلالته على منطقة أو قبيلة أو طقس اجتماعي.
السعف بين السودان والخليج: وحدة النخلة وتعدد المسميات رغم البُعد الجغرافي بين السودان والخليج العربي، إلا أن بينهما رابطًا بيئيًا وثقافيًا عميقًا تمثله شجرة النخيل، هذه الشجرة المباركة التي ظلت رمزًا للكرم، والصبر، والارتباط بالأرض.
لم تكن النخلة مجرد مصدر للغذاء، بل أيضًا مادة خام لصناعة أدوات الحياة اليومية، وعلى رأسها الصناعات اليدوية من السعف.
في كلا البلدين، نشأت حِرف ضفر السعف كفن نسائي أصيل، أبدعته النساء من احتكاكهن المباشر بالطبيعة وحاجات المنزل. وعلى الرغم من اختلاف التسميات، فإن المنتجات المصنوعة من السعف في السودان لها نظيراتها في الخليج، ما يؤكد وحدة الأصل وتنوع الشكل.
ففي السودان، تُستخدم الريكة لتقديم الطعام البلدي، وهي تُصنع من السعف الطبيعي، بينما تُعرف في الخليج بالسفرة أو السرود وتؤدي نفس الوظيفة. أما القفة السودانية، التي تُستعمل لحمل الأغراض، فلها مقابل خليجي يُعرف بالزبيل. والطبق وهو غطاء يحمي الطعام من الحشرات، يوازيه في الخليج أيضاً (الطبق) أو أنواع أخرى من الأغطية المنسوجة من الخوص. لكن ما يوحّد التجربتين حقًا هو المرأة، تلك الصانعة الأولى للجمال، وحارسة الحرفة.
في السودان كما في الخليج، كانت المرأة تبتكر من عناصر الطبيعة أدوات تحفظ الغذاء وتحمل الهوية. لم تكن الحرفة مجرد استجابة لحاجة يومية، بل كانت أيضًا تعبيرًا عن الذوق، والذاكرة، والخيال الشعبي.
تهديدات حديثة وتراث مهدد
اليوم، تواجه هذه الحرفة العريقة تهديدًا مشتركًا في البيئتين.
العولمة ودخول البدائل الصناعية مثل البلاستيك والألياف الحديثة، ساهمت في تراجع الصناعات اليدوية المصنوعة من السعف.
تراجعت صور النساء اللواتي كنّ يضفرن السعف تحت ظلال النخيل، وتقلَّصت مساحة الأطباق والمواعين اليدوية لصالح المنتجات الجاهزة.
ومع ذلك، تظل صناعة السعف أكثر صحة، وأكثر صداقة للبيئة، وأقل تكلفة، مما يجعل من إحيائها ضرورة ثقافية وبيئية في آن واحد.
المرأة حارسة التراث
إن توثيق هذا التلاقي بين ضفاف النيل وسواحل الخليج لا يُعيد الاعتبار للحرفة فقط، بل يفتح المجال أمام مشاريع بحثية وتعاونية تُبرز المشترك الثقافي بين الشعوب العربية.
ويُعيد الاعتبار للمرأة، تلك الفاعلة الثقافية والمبدعة الصامتة، التي كانت وما زالت عماد هذا التراث.
السعف حين تُحوّل الذاكرة إلى فن
صناعة السعف ليست مجرد مهنة، بل هي فلسفة حياة. إنها الشاهد الصامت على قدرة الإنسان السوداني على تحويل الطبيعة إلى حياة، والفقر إلى غنى، والذاكرة إلى فن.
من بيت جدتي إلى أسواق السودان، ومن البروش إلى القفاف، تبقى صناعة السعف تراثًا حيًا، لا يُقاس بمدى انتشاره، بل بعمق حضوره في الروح والذاكرة.
** **
- فاطمة عثمان محمد مصطفى