الأديب الصيني ماي جيا، الذي عرفه القرّاء في داخل الصين وخارجها بصور متعدّدة، يُمثّل نموذجًا فريدًا للكاتب المعاصر الذي يجمع بين براعة السرد الروائي وحسّ السيناريو السينمائي، ليصوغ أعمالًا تمتاز بالعمق الفكري والتشويق الدرامي في آن واحد.
فقد أصبح ماي جيا منذ بداياته الأدبية شخصية محورية في الأدب الصيني المعاصر، ليس فقط من خلال الجوائز التي حاز عليها، ومنها جائزة ماو دون الأدبية، بل أيضًا عبر تأثيره المستمر في القراء والمجتمع الأكاديمي على حد سواء، فبدأت شهرته مع صدور روايته الطويلة الأولى (فكّ الشيفرة) عام 2002، والتي لاقت استحسان النقّاد والقرّاء، وحازت على جائزة الصين القومية للكتاب، لتتبعها لاحقًا سلسلة من الجوائز الأدبية المهمة، ممّا رسّخ مكانته الأدبية في المشهديْن الصيني والعالمي.
وتتميّز روايات ماي جيا بالجمع بين التشويق الغامض والتحليل العميق للطبيعة البشرية، بحيث لا تقتصر على الأحداث التجسسية والتكتيكات الاستخباراتية، بل تتعداها لتغدو دراسة فلسفية لمصائر الإنسان وعبقرية الشخصيات المعزولة اجتماعيًا وعاطفيًا. ففي (فك الشيفرة)، يُصوّر الكاتب عبقرية رياضية تُدعى رونغ جين تشن، تتحوّل حياته إلى مأساة بعد فقدان دفتر الشفرات الخاصّ به.
ومن خلال هذا البطل المأساوي، يُسلّط ماي جيا الضوء على تعقيد النفس البشرية والصراع بين العبقرية الفردية ومتطلّبات المجتمع، موضّحًا كيف يمكن للموهبة نفسها أن تكون مصدرًا للعزلة والمعاناة، وقد ترجم هذا العمل إلى أكثر من ثلاثين لغة، وصدرت عنه طبعات عديدة في دور نشر عالمية، بما في ذلك Penguin Classics في بريطانيا وFSG في الولايات المتحدة، وقد أشادت به وسائل إعلام عالمية مثل The Economist وWall Street Journal، معتبرة إياها إحدى أعظم الروايات الصينية وأكثرها إثارة للاهتمام على مستوى الأدب العالمي.
وقد واصل ماي جيا رحلته الأدبية في رواية (المؤامرة)، التي تناولت جهاز الأمن الوطني الصيني المعروف برمز 701، مُقدّمًا صورةً مركّبة لشخصيات أسطورية تعمل في وحدات المراقبة وفك الشفرات والعمليات الخاصة. وتميّزت هذه الرواية بالجمع بين الواقعية التاريخية والغموض الفني، مع التركيز على الصراعات الداخلية والخارجية للشخصيات، في بيئة تتطلب التضحية المطلقة والوطنية الصارمة، وقد حازت الرواية على جائزة ماو دون الأدبية وترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، مؤكّدة على المكانة المرموقة لماي جيا في الأدب الصيني المعاصر.
أما رواية (صوت الرياح)، فهي تمثل قمة النضج الفني لماي جيا، حيث تدور أحداثها خلال الحرب العالمية الثانية في مدينة هانغتشو الخاضعة للاحتلال الياباني، وتتناول معاناة خمس شخصيات رئيسية تحت ظروف اعتقال قاسية، مع محاولات يائسة لكشف جاسوس يُعرف بـ«الشبح القديم»، ليُظهر من خلالها براعة الكاتب في نسج حبكة متشابكة بين الواقع والتخييل، مع تقديم رؤية أخلاقية واضحة حول الخير والشر، والوفاء والخيانة. وقد حازت الرواية جائزة الأدب الشعبي، وترجمت إلى الإنجليزية، وأشاد بها النقّاد لقوة سردها وغوصها العميق في أعماق النفس البشرية.
وعلى المستوى الواقعي والفلسفي، جاءت رواية (هكذا الحياة) لتعيد التركيز على مسقط رأس الكاتب وتجارب الطفولة، مجسّدةً إنسانية عميقة. ففيها يستكشف ماي جيا القيم الأخلاقية الجوهرية، مثل الحبّ والكراهية، الخير والشرّ، والجريمة والعقاب، مُقدّمًا رؤية فلسفية معمّقة حول تقلّبات الحياة ومصائر البشر، مُجسّدًا مفهوم التسامح والصبر والنضج الروحي. وقد صاغ عبارته الشهيرة «الحياة بحر، وأيامها الأمواج»، لتغدو بمثابة مفتاح دلالي لفهم هذه الرواية.
وبعد هذا النجاح، أطلق ماي جيا روايته الجديدة (هكذا الحياة)، وهي عمل يتميّز بخلفية تاريخية واجتماعية واسعة، حيث يغطّي مسار حياة عدّة شخصيات من طبقات اجتماعية مختلفة في فترة زمنية طويلة، ويستند إلى تحوّلات الصين خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ويمثّل هذا العمل رحلة استكشافية للحياة، مليئة بالصراعات الفردية والجماعية، ويعكس فلسفة الكاتب في استكشاف طبيعة الإنسان في مواجهة التغيّرات التاريخية، والبحث عن معنى الحرية، والانتماء، والعلاقات الإنسانية المعقّدة.
وتتّسم (هكذا الحياة) بأسلوبها الذي يجمع بين الواقعية الاجتماعية والفلسفة الإنسانية، إذ تُقدّم لوحة واسعة للتجربة البشرية، مع التركيز على تطوّر الشخصيات، وصراع الأجيال، ومواجهة الإنسان لذاته ولمجتمعه. ويتميّز السرد بالكثافة والتدفّق الشعوري، واعتماد تقنيات الأصوات المتعددة والزوايا المتباينة، ما يمنح القارئ فرصة الغوص في أعماق الشخصيات وتاريخها النفسي والاجتماعي. كما تعكس الرواية اهتمام ماي جيا بالذاكرة، والتاريخ الشخصي والجماعي، والبحث الدائم عن الهوية والذات.
ومع التحضيرات الجارية في العالم العربي، من المتوقع أن يلقى أدب ماي جيا اهتمامًا واسعًا عند تقديمه في فعاليات ثقافية عربية، مثل صالون الأدب السعودي الصيني: بصمات العصر وأصداء الآداب في السادس من أكتوبر عام 2025، حيث تُخطط الجهات المنظمة لعرض النسخ العربية من روايته (هكذا الحياة)، التي تُعدّ أحدث إصدارات ماي جيا، بهدف إتاحة فرصة للقراء العرب للاطلاع على فلسفة ماي جيا في معالجة الطبيعة البشرية، العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الحرية والمسؤولية، وكذلك تسليط الضوء على الخصائص الفنية المميزة لرواياته، من لغة مشحونة بالعاطفة، وسرد متعدد الأصوات، وتصوير حي للصراعات الداخلية والخارجية للشخصيات.
ومن خلال هاتيْن الروايتيْن، سيكون بمقدور القرّاء العرب التعرّف على مفهوم الأسرة، الذاكرة، والنضج الشخصي، وفهم كيف يمكن للأدب أن يتحوّل إلى وسيلة لمعالجة الجروح النفسية والروحية، وإلى مصدر للتأمّل في معاني الحياة والارتباط بين الإنسان وماضيه ومستقبله، فإن أعمال ماي جيا، عند تقديمها في العالم العربي، لا تقتصر على كونها نصوصًا للمتعة السردية، بل تغدو جسورًا للتفكير، ووسائلَ لاكتشاف النفس البشرية، وفهم الجذور العائلية والمجتمعية للوجود الإنساني، وهو ما يجعل أدبه نموذجًا متفرّدًا للأدب الصيني المعاصر الذي يجمع بين الواقعية الاجتماعية والفلسفة الإنسانية، ويُقيم جسرًا حيًّا للتواصل بين الثقافات.
** **
- وانغ يويونغ (فيصل).. ويانغ شيوه (مريم)