الثقافية - كمال الداية:
صدر حديثًا كتاب «نسج الريح: قراءات نقدية في السرد» للدكتور عبدالعزيز السبيل، وهو عمل يمثل إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية، خاصة في مجال دراسات السرد. الكتاب، الذي جاء في طبعته الأولى عام 1447 هـ (2025م)، عن دار أدب للنشر والتوزيع، يضم مجموعة من المقالات التي نُشرت متفرقة على مدى سنوات في عدد من الصحف المحلية، وتم جمعها وتقديمها للقراء والباحثين في مجلد واحد.
دلالات العنوان وتكريم «ساردتي الأولى»
يستلهم عنوان الكتاب، «نسج الريح»، دلالاته من المعنى اللغوي للسرد، الذي يشير إلى نسج الدروع أو الحلقات، كما ورد في القرآن الكريم عند الحديث عن النبي داود عليه السلام في سورة سبأ، حيث يعني «نسج الدروع». كما يعيد العنوان إلى الأذهان قصة المعتمد بن عباد وجاريته اعتماد الرميكية، التي أجازت شطره الشعري «نسج الريح من الماء زرد» بقولها: «أي درع لقتال لو جمد». هذا الارتباط اللغوي والشعري يمنح العنوان عمقًا يلامس فكرة الإحكام والتتابع الجيد في الكلام.
يفتتح الكتاب بـ«الإهداء» إلى شخصية محورية، هي «ساردتي الأولى نورة»، داعيًا لها بالرحمة الإلهية، ومقدمًا لها كلمات امتنان لكونها «من أدخلتني عالم السرد» و»من منحت السرد قيمة كبرى» و»علمتني الإنصات وتذوق السرد نثراً وشعراً».
المقالات والمنهج النقدي
يُشير المؤلف في مقدمته المعنونة بـ«عتبة» إلى أن المقالات جميعها ذات صلة بالسرد، مفهومًا، وتنظيرًا، وتطبيقًا. وقد آثر نشرها كما هي، دون تغيير كبير، باعتبارها «وثيقة تاريخية ونقدية» تعبر عن زمن كتابتها، وحرص على توثيق تاريخ النشر. وتأتي هذه القراءات في سياق يهدف إلى أن تكون «محفزًا لمزيد من البحث العلمي، والإنتاج النقدي».
مفهوم السرد بين اللغة والاصطلاح
يخصص السبيل مقالة محورية لاستكشاف مفهوم «السرد: الحد والمفهوم»، حيث ينطلق من جذر الكلمة في القرآن الكريم ليمر بدلالاتها في المعاجم العربية، التي تؤكد على معنى «التتابع» و«جودة سياق الحديث». ويؤكد أن مصطلح «السرد» بمفهومه الشامل قد أصبح يسيطر على معظم الفنون النثرية، بما في ذلك الرواية، القصة القصيرة، السيرة الذاتية، المسرحية، والمقامة، كما يشمل السرد في الشعر القصصي والسير الشعبية.
كما يناقش المؤلف تطور المصطلح في النقد العربي الحديث، مشيرًا إلى أن شيوعه جاء بتأثير الترجمة للمصطلح الإنجليزي Narrative. ويقدم رؤية أوسع للسرد تتجاوز القول والحكي لتشمل «السرد المرئي» في المسرح والسينما، حيث يتحول دور السارد إلى «الفعل نفسه» الذي تجسده الشخصيات.
القصة القصيرة: إشكالية المفهوم والتقنيات
يتناول الكتاب إشكالية مفهوم القصة القصيرة في مقال بعنوان «مفهوم القصة القصيرة بين آراء النقاد ورؤى المبدعين»، مشيرًا إلى أنها فن حديث نسبيًا تأصل في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر. ويُبرز التداخل بينها وبين الرواية، مؤكدًا أن القصة القصيرة ليست مجرد رواية ذات عدد كلمات أقل، بل تتطلب «التكثيف اللغوي والمعالجة المركزة». ويرى أن القصة القصيرة تعالج «جانبًا واحدًا من الحياة، يقتصر على حادثة واحدة».
تطرق الكاتب أيضًا إلى التباين في تحديد مصطلح القصة القصيرة، بدءًا من تعريف إدجار آلن بو بأنها «المروي الذي يمكن أن يقرأ في جلسة واحدة»، وصولاً إلى آراء حديثة تقر بصعوبة وضع تعريف جامع مانع لهذا الفن. كما يناقش الجدل حول علاقة القصة القصيرة بالشعر، حيث يرى البعض أنها «أقرب إلى الشعر منها إلى الرواية».
وفي مقال آخر، «تقنيات القصة القصيرة»، يوضح السبيل أن القصة القصيرة تعتمد على «حدث واحد» وزمن محدود وشخصيات قليلة، مع التركيز على «التكثيف اللغوي». ويشرح التقنيات الأساسية كـ «السرد» وضرورة اختيار الراوي (العليم أو المحايد)، و»الحوار»، و»الحوار الداخلي (المونولوج)»، و»الاسترجاع (Flashback)».
مسيرة القصة القصيرة
يخصص المؤلف قسمًا لاستعراض تاريخ «القصة القصيرة في الجزيرة العربية» بين 1930 و1990. ويؤكد أن الصحافة كانت العامل الأساسي في تبلورها. كما يلاحظ أن القصة القصيرة في مرحلة النشأة دخلت من باب «الإصلاح الاجتماعي» قبل الجانب الفني. ويقدم مسحًا لأولى القصص والمجموعات القصصية في عدد من أقطار المنطقة.
ويفرد مقالة لـ «بانوراما القصة القصيرة السعودية»، مؤرخًا بدايتها في الأربعينات، وتحولها من الاهتمام بالإصلاح الاجتماعي إلى النضج الفني في الستينات. ويشير إلى أن القصة السعودية شهدت تحولًا نحو «اللغة المباشرة إلى لغة الرمز والتكثيف اللغوي».
أما عن الرواية، فيناقش «رؤية في الرواية السعودية»، متسائلاً عن المعايير الفنية لتصنيف الأعمال الروائية المحلية. ويسلط الضوء على قضية المحلية وتأثير جنسية المبدع والموضوع المطروح.
وفي دراسة مفصلة بعنوان «بدء الرواية السعودية بين «التوأمان» و»الانتقام الطبعي»»، يشكك السبيل في اعتبار رواية «التوأمان» لعبد القدوس الأنصاري (1930) بداية فنية للرواية السعودية، مشيرًا إلى أنها تفتقر إلى المقومات الفنية الكاملة. ويقترح أن تكون رواية «الانتقام الطبعي» لمحمد نور الجوهري (1935) هي الأجدر بتمثيل تاريخ بدء الرواية السعودية، لتفوقها الفني واحتوائها على عناصر الرواية الأساسية.
قراءات تطبيقية في السرد السعودي
يختتم الكتاب بقراءات نقدية تطبيقية لأعمال سردية سعودية، منها رؤية تحليلية لأعمال إبراهيم الناصر الحميدان حول «التحول الاجتماعي» بين القرية والمدينة، ومناقشة لقصص نثار زكريا ودورها الريادي في كتابة القصة القصيرة النسائية. كما يقدم قراءات لقصص كل من حسن النعمي («حويلة الفجر الخامس»)، محمد علي الشيخ («نهاية رجل وحلم»)، تركي ناصر السديري («تداعيات ناقة العويني»)، جار الله الحميد («بنت الجيران»)، ومحمد علي قدس («المتسلط»، و»بياض الموت، «خيوط السواد»). بالإضافة إلى مقالة عن «الغذامي السارد في حكاية سحارة».
يعد «نسج الريح» مرجعًا نقديًا مهمًا يُثري فهمنا للسرد العربي، مؤكدًا على أن النقد والتنظير لا يهدفان إلى وضع قيود على المبدع، بل إلى بلورة خصائص الفن وتطوير آفاقه.