ذات زمن، كان الناس يتكلمون لسانا واحدا، يحاولون به بناء برج يلامس السماء، فكان أن فرّق الله ألسنتهم وشتّتهم في الأرض، وتشظّت لغاتهم حتى صار التفاهم بينهم أشبه بالمستحيل. ومنذ ذلك الحين، صارت أسطورة بابل رمزا لكل ما هو مشوَّش، وغامض، ومفكك.
لكن هل التعدد فعلا هو لعنة؟ أم أننا نسيء فهم الهبة حين تأتي على هيئة اختلاف؟
يرى التصور البابلي التعدد لعنة، لكن النص القرآني لا يظهر التعدد كذلك، بل هو آية من آيات الله: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) التعدد مشهدٌ من مشاهد الخلق، ودليل على الحكمة الإلهية وتجلٍ للتنوع الإنساني. اختلاف اللغة ليس قانونا جغرافيا، بل هو جزء من تركيب الإنسان، دليل على تميّز الجماعة وفرادتها. ومع ذلك، يكون التعدد حاجزا أحيانا، لأن اللغة، وإن كانت وسيلة للفهم، قد تصبح أداة لسوء الفهم أيضا.
وهنا يبرز دور الترجمة، التي تأتي كحلم إنساني يحاول أن يعيد بناء بابل مرة أخرى، لا من الحجارة هذه المرة، بل برجا معنويا لغويا؛ محاولة لردم الفجوة بين اللغات وبين البشر، محاولة للفهم. حلم المترجم أن تنجح اللغات المتباعدة في التقارب، والتقريب بين البشر، لكن هذا الحلم لا يمكن أن يتحقق، فاللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، ليست قالبا يحتوي المعنى، بل هي التي تشكّل المعنى وتعيد صياغته.
لا توجد ترجمة دقيقة تماما. لأن اللغة، كما يرى جاكوبسون، ليست مجموعة كلمات، يمكن نقلها من لغة إلى أخرى، بل شبكة معانٍ تُنقل من سياق لغوي وثقافي إلى آخر. ولأن كل لغة تنشئ عالما، فإن العبور من لغة إلى أخرى لا يكون عبورا أفقيا سطحيا، بل نزولا إلى طبقات من الثقافة والرمز والدلالة. المترجم لا ينقل كلمات ومعانيَ فقط، بل ينقل أنظمة تمثيل، وبنيات تفكير، وأنماط تعبير، وينقل ثقافة تختزنها اللغة.
الترجمة ليست مرآة تعكس المعنى، بل هي عدسة مركزة، تضيء أجزاء، وتعتم أجزاء، تبقي على مناطق الظل التي تتطلبها الترجمة. الترجمة الجيدة تُبقي على المساحات الغامضة، ولا تكشف كل شيء. يقول كارلوس باتيستا في كتابه (كاتب الظل): “تمكننا الترجمة من استشعار كم أن مفهوم الحقيقة غامض، وإلى أي حد الإنسان كذلك، هو متعدد وغير مستقر”.
لذلك تتحول الترجمة إلى مغامرة، النص ليس كلمات فقط، بل أصواتا وإيقاع وظلال وصمت وشعور، ولغة تقول لتكشف، وأحيانا لغة تقول لتخفي.
الترجمة إبداع وإعادة كتابة أكثر من أن تكون تحويلا من لغة إلى أخرى. نقل المعنى العام سهل، نقل الشعور والامتدادات لا يمكن أن يكون سهلا. الإمساك بالنص سهل، الإمساك بروح النص لا يمكن أن يكون سهلا.
الترجمة تكشف الفهم؛ لذلك قيل إنها فن الفهم، لا فهم المعنى فقط، بل فهم السياق والثقافة والاختلاف، وفهم ظلال المعاني، ودلالاتها، وامتداداتها، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بعقد صداقة مع النص، والجرأة على خوض هذه المغامرة.
عملية الترجمة هي عملية تأويل، اللغة تحمل أبعادا ثقافية لا يمكن التخلص منها، كل كلمة تحمل خلفها دلالات ثقافية، وخيالا جمعيا، وتاريخا، وتصورا وتمثيلا، اللغة مشبعة بالثقافة بطريقة لا يمكن فصلها عنها. قدرة المترجم تكمن في قدرته على نقل كل هذه الامتدادات خلف المعاني لا المعاني فقط، كل نص مترجم يحمل بصمة مترجمة، يحمل ثقافته وخياله ورؤيته. يقال إن النصوص المترجمة تميل إلى الإيضاح أكثر من النص الأصلي، في النصوص الأصلية هناك دوما شيء من الغموض الذي تفسره اللغة الأصلية، أما في الترجمة فهناك محاولات دائمة لسد الفجوات الثقافية والتقريب بين سياقات اللغتين، وهذا ما يعرف بفرضية التفسير في الترجمة.
النصوص هي استضافة للمعاني، والترجمة كذلك استضافة للمعاني، تستوعب الغريب وتصغي له، لا تطمس الفروق، لكنها تقربها إلى الحد الذي يكون الفهم معه متاحا، هي “استضافة غريب” بهدف الإصغاء إليه، كما يقول عبد السلام بن عبد العالي في كتابه (انتعاشة اللغة): “الترجمة ضيافة، لكنها ضيافة غريب”. ولذلك يقول: “لا ينبغي أن ينظر إلى الترجمة أساساً كعملية لخَلْق القرابة، وإنما كفعالية لتكريس الغرابة”.
الترجمة جسر غير مكتمل البناء، جسر مليء بالمطبات والحفر، لكنه الجسر الوحيد الذي يمكننا عبوره نحو الآخر. الترجمة جسر غير مكتمل البناء، لكننا كلما حاولنا إكماله، اتضح لنا أن هشاشته أكبر من أن تبنى، وأن جمالية الترجمة تكمن في هذه الصعوبة والاختلاف وهذا القدر من المسافة الذي لا يردم.
تظل الترجمة المحاولة الأصدق لأن نفهم الآخر، ولأن نعرف كم نجهل أنفسنا حين نراها في مرآة لغة الآخر، الترجمة لا تقول الحقيقة، لكنها تتيح طريقا نحوها، وهذه أعظم مهمّة يمكن أن تقوم بها الكلمات.
الترجمة، في نهاية الأمر، ليست تطابقا، بل تقاطع. ليست خلقا للقرابة فقط، بل تكريسا للغرابة أيضا. إنها استضافة للغريب، لا لإخضاعه، بل للإصغاء إليه. وكما قال ديريدا: “ا لترجمة مستحيلة وضرورية في الوقت نفسه”. ولعل هذا التناقض هو ما يجعلها أسمى أشكال الفهم، وأصدق محاولات الإنسان للاقتراب من الآخر، وللاقتراب من نفسه من خلاله.
** **
- د.عبير علي الجربوع