اللغة العربية سيدة اللغات؛ تاج البيان تجلت فيها البلاغة وتصوير المشاعر والأفكار، مجد هويتنا وهي أيضًا هوية مجدنا، ورمز كياننا، جامعة لشملنا وموحدة لكلمتنا، حافظة لتراثنا وذاكرتنا الجمعية، وأداة لنقل العلوم والثقافة عبر العصور، يكفينا فخرًا أنها لغة القرآن الكريم ارتبطت بالعبادة والشعائر الدينية فمنحتها قدسية خاصة وجعلتها محورًا أساسيًا في حياة المسلمين، لغة تحمل تاريخًا عريقًا ومجدًا حضاريًا.
اليوم، تعيش اللغة العربية الفصحى لحظة فارقة في تاريخها؛ ففي زمن وسائل التواصل الاجتماعي تخوض حربًا من أجل البقاء بين اللهجات العامية المتصدّرة، واللغات الدخيلة، والرموز التعبيرية (الإيموجي). ويبقى السؤال: فهل نحن أمام تراجع للغة، أم ولادة جديدة للغتنا العربية في زمن التقنية؟
فمن يفتح منصة X أو فيسبوك يلحظ أن الأغلبية يكتبون باللهجات العامية، فكان حضورها أكثر في الكتابة اليومية. وإن كان هذا يعكس القرب والعفوية، إلا أنه يثير قلقًا بشأن تراجع اللغة العربية الفصحى في المجال العام ويضعف ممارستها. فمثلًا يكتب البعض: «وش الأخبار؟» بدلًا عن «ما الأخبار؟»، «وينك؟» بدلًا من «أين أنت؟»، «هالحين» بدلًا من «الآن»، «خلاص» بدلًا من «انتهى/كفى»، «شفيك؟» بدلًا من «ما بك؟». هذه الأمثلة توضح هيمنة العامية على منصات التواصل الاجتماعي، بينما تقابلها في الفصحى تراكيب أكثر ضبطًا ورصانة.
برزت ظاهرة اللغات الدخيلة واستخدامها محل العربية في ثنايا الكلام، نلحظ انتشارها الواسع بين الشباب. فكثيرًا ما نسمع أو نقرأ كلمات أجنبية أو معرّبة تُستعمل بدلًا من مفردات عربية أصيلة؛ كأن يقول أحدهم: «ترم» بدلا من «فصل دراسي»، ميكرفون» بدلا من «مكبر صوت»، «سَيِّف الرقم» بدلا من «احفظه»، «سندوتش» بدلا من» شطيرة»، «لايت» بدلًا من «خفيف»، «أبديت» بدلًا من «تحديث». هذه الأمثلة تكشف عن تغلغل اللغات الأجنبية في الاستعمال اليومي وتسربها داخل تراكيب لغتنا الفصحى، حتى أصبحت جزءًا من الخطاب العفوي، وهو ما يثير التساؤل حول مستقبل الفصحى في ظل هذا التداخل اللغوي.
برزت ظاهرة الرموز التعبيرية (الإيموجي) التي حلت محل الكلمات وأصبحت جزءًا من الخطاب اليومي، لتنشأ لغة تجمع بين النص والصورة، تختصر المشاعر في رمز صغير: وجه مبتسم بدلًا من قول: «أنا مسرور/سعيد»، قلب منكسر بدلًا من «أنا حزين»، أو وردة حمراء بدلًا من «أهديك وردة». بل تجاوز ذلك ليشمل مواقف حياتية كاملة، فيستخدم رمز النار ليدل على النجاح والحماس، رمز اليدين المتصافحتين بدلا من «اتفقنا»، رمز الساعة بدلًا من «حان الوقت». هذه الأمثلة تكشف عن تحول في أنماط التواصل حيث استبدلت الكلمات والمشاعر والحالات بصور سريعة الإيحاء وإن كانت لغة مختزلة، إلا أنها تُضعف ممارسة الفصحى إذا كثُر استخدامها بدلًا من الكلمات. فاللغة العربية الفصحى قادرة على الإحاطة بالمعنى وإبرازه، ووضوح التعبير، ورصانة الأسلوب في أبهى صورة ممكنة.
وهنا يظهر التحدي: كيف نحافظ على الفصحى حيّةً في فضاءٍ يزدحم بالعاميات واللغات الدخيلة والرموز التعبيرية؟
رغم ذلك، وفرت وسائل التواصل الاجتماعي منصات واسعة لنشر الأدب العربي، وأتاحت مساحات لتبادل اللغة العربية بأسلوب فصيح ورصين، وفتحت آفاقًا جديدة لتعليم العربية لغير الناطقين بها عبر حسابات تعليمية ومبادرات رقمية. أعادت هذه المنصات الاعتبار للفصحى، وشجعت الشباب على استخدامها في منشوراتهم، ودعتهم إلى الكتابة بها، فضلًا عن تنظيم مسابقات تتيح تبادل المعرفة وصياغة الأفكار بالعربية الفصحى، وهكذا نجد أنفسنا أمام مسؤولية عظيمة، كما أشار الدكتور مرزوق بن تنباك: «إن اللغة كائن حي متطوّر ومتغيّر، وهنا تحتاج إلى الرعاية لتعيش وتقوى، وتقوم بوظيفتها بين لغات العالم. ولا يكون ذلك حتى يدرك أهلها أنهم مسؤولون عن تطويرها وعن تقويتها، وعن صحتها وسلامتها، والعمل على نشرها، وهذا ما تفعله كل أمة بلغتها، ولن يكون العرب والمسلمون إلا حماة لها، يحافظون عليها ويعيدون لها قوتها.»
المطلوب اليوم ليس الدفاع عن اللغة العربية الفصحى فحسب، بل تطوير أدوات رقمية تدعمها، وإدماج وسائل التواصل في مناهج التعليم بدلًا من اعتبارها خطرًا. فالمنصات الرقمية ليست في مواجهة مع العربية الفصحى أو ساحة تهديد لها، بل هي فرصة لإعادة إحيائها وتوظيفها في العصر الرقمي. فالمهم ليس السؤال: كيف ستبقى العربية؟ بل: كيف نجعلها لغة المستقبل، لا الماضي؟
** **
د. نورة بنت عبد الله العمر - أستاذ الأدب والنقد المساعد بجامعة الملك سعود
@nora_7055