«القواعد» من حيث هي أنظمة تحكم بنيةَ العلاقات ليست خاصة بنشاط التعليم الذي يمارسه المعلمون بل هي طبيعة كل نظام كوني، وكل من النحاة ومعلمي النحو يلتقون في ميدان القواعد، ولكن الفرق أن النحاة يبتدئون فيكشفون عن القواعد، والمعلمون يتبعونهم ليدرّسوا القواعد؛ فالمقاصد مختلفة؛ ويترتب على اختلاف المقاصد اختلاف المنهج شكلا ومضمونا؛ فنجد النحاة -المؤسسين خصوصا- يسلكون سبيل الجمع والاستقصاء والتحليل والتجريد والتعليل والتمييز بين الثوابت والمتغيرات وصولا إلى القواعد التي لا تعني لهم سوى أنها تعبيرات عن الآليات العميقة التي تحكم وتفسر ما لا ينحصر من صور الكلام الظاهرة، وهي قواعد قابلة في منهجهم للتعديل المستمر حسب تغيّر التصور، في حين نجد المعلمين -لحاجة الهدف التعليمي- يسلكون سبيل الاختصار والانتقاء والتقليل من التحليل والتعليل والإكثار من التطبيق والتمثيل، مقتصرين على الأشيع والأفصح، لأن مقصدهم الأول هو تربية السلوك اللغوي وليس الفكر النظري.
إلى هنا لا مشكلة في هذا الاختلاف لأنه اختلاف في تنوع المقاصد يقضي به اختلاف مجال الاختصاص داخل الدائرة المقاصدية المعرفية الكبرى، ولكن المشكلة تأتي حينما يطغى جانب على جانب طغيانا مرَضيّا فيحاول تهميشه أو إلغاءه بدل أن يفيده أو يفيد منه؛ فيحاول النحوي المتعمق في درس الظاهرة اللغوية أن يعمم منهجه على جميع المهتمين والدارسين فلا يدرس اللغة ولا يتأمل إلا بطريقته! غافلا عن أن المهتمين باللغة وإن اشتركوا في حبها والإقبال على درسها فهم متفاوتون في مقاصدهم النوعية من دراستها وفي قدراتهم على استيعاب نظرياتها وتَمثُّل تطبيقاتها. وكذا الأمر حينما يجمد معلم اللغة على كتب القواعد معرضا عن تطوير معارفه ومهاراته النظرية والعملية فلا يلتفت إلى نحو المؤسسين ولا يرى في نتاج اللسانيين المحدثين ما يمكن أن يعمق فهمه لقواعد اللغة ويحسن من طرق تعليمه لها.
إذا نظرنا في تاريخ النحو القديم على ضوء الرؤية المقاصدية هذه ستتغير معلوماتنا التي سبق أن تعلمناها وتصورنا من خلالها منزلة بعض المؤسسين الأوائل من البصريين والكوفيين، ذلك التصور الذي بنيناه من خلال حكايات كتب الطبقات والمجالس ونحوها وما قاله أتباع كل فريق -وأكثرهم متعصبون- عن الآخر، حتى كانت النتيجة صورةً مليئة بالأوهام عن النحو والنحاة! ونجد -مثلا- في كتاب «نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة» (1938 م) للشيخ الأزهري محمد الطنطاوي -رحمه الله- نماذج لهذه الأوهام ساهم في نشرها بين المحدثين -التراثيين منهم واللسانيين- حتى تسببت في بناء أفكار ونظريات خاطئة كما عند إبراهيم أنيس وتمام حسان وعبدالرحمن أيوب وغيرهم، إضافة إلى التأثير السلبي لكتاب إبراهيم مصطفى «إحياء النحو» المتزامن مع كتاب طنطاوي (1937م).
ومن أبرز هذه الأوهام أن الكوفيين أكثر احتراما للنصوص من البصريين، وترتب على ذلك وهم آخر أن مذهب الكوفيين هو مذهب سعة القياس ومذهب البصريين هو التضييق رغبة في طرد القواعد. ويفسر الطنطاوي العلة في اختلاف المذهبين تفسيرا طبيعيا جغرافيا يتعلق بالمزاج الثقافي لكل من البصرة والكوفة (انظر ص 127) لكنه لم يتنبه إلى ما هو أخص من ذلك مما له صلة بالمقاصد الثقافية المعرفية المتنوعة بين الفئتين؛ فالبصريون تغيّوا استنباط قوانين العربية لتمكينها من الحياة مادام في الأرض عرب ومادام في الأرض إسلام. والكوفيون لم تترقَّ مقاصدهم إلى هذا المقصد المنهجي العميق، وإن كانوا سائرين على طريقه في العموم، ولكن غاياتهم الخاصة كانت متعلقة بالكلام العربي من حيث أنواعه وصوره وتقلباته بين الحقيقة والمجاز... بعبارة موجزة وبلغة اللسانيين المحدثين: كان البصريون معنيين باللغة في حين كان الكوفيون معنيين بالكلام. هذا هو الفيصل بين المنهجين الذي لم يتنبه له المحدثون فتصوروا صورا مخالفة للحقيقة.
يوضح ذلك ويؤكده أن نقارن مثلا بين كتاب سيبويه وكتب الفراء؛ فكتاب سيبويه هو تهذيب لعلم الخليل خصوصا وعلم أئمة البصرة قبله عموما، والرؤية المنهجية العامة للخليل هي التي أعلنها في كلمته المشهورة حين سئل عن العلل التي يعتل بها في اللغة: «عن العرب أخذتَها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها، وعرفَتْ مواقع كلامها، وقامت في عقولها عِلَلُه، وإن لم يُنقل ذلك عنها، واعتللْتُ أنا بما عندي أنه علة لِما عللتُه منه، فإن أكن أصبتُ العلة فهو الذي التمستُ، وإن يكن هناك علة غير ما ذكرتُ فالذي ذكرته محتمل أن يكون علة له.. فإن سنحتْ لغيري علة لما عللتُه من النحو هي أليق مما ذكرتُه بالمعلول فليأت بها»، فهذه بلا شك رؤية شخص ينحو في البحث اللغوي منحى كليا وعميقا، وهو في الوقت نفسه لا يحكم على مذهبه هو وأصحابه بالسلامة المطلقة، بل يدرك أن منهجه هو مجرد «خيار نظري» صالح للتفسير والفهم، ولكنه في الوقت نفسه يطالب مخالفيه بأن يأتوا بالخيار النظري الأفضل ليثبتوا قصور منهجه أو أفضلية غيره عليه.
فهذا من حيث الرؤية المنهجية المعلَنة للمذهب، فإذا نظرنا في الكتاب وجدنا مصداق ذلك ظاهرا لا غموض فيه ولا شك؛ فهو كله من أوله إلى آخره معني بوصف وتحليل وتفسير أنظمة العربية، مميزا في كل باب بين الأصول والفروع، وموجِّها ما يخرج من «الكلام» شعرا ونثرا عن أصول «اللغة» المطردة، على نمط منهجي فكري من الطراز الأول الذي لا نظير له -حسب اطلاعنا- في العلم النحوي قديمه وحديثه.
فإذا انتقلنا إلى الفراء لم نجد له تصريحا يوضح منهجه، وهذا الفقدان في ذاته له دلالة منهجية إذا ما قورن بإعلان الخليل منهجَه وهو سابق له (في طبقة أستاذه أو أستاذ أساتيذه)، فكان المفترض بحكم التطور العلمي ألا يفوت الفراءَ توضيحُ منهجه اللغوي إن كان له منهج يريد له المنافسة لمنهج الخليل وسيبويه، لكنني لم أجد -حسب اطلاعي بطبيعة الحال- أيّ أثارةٍ لرؤيةٍ منهجية من هذا القبيل سوى ما نُقل عن أبرز أتباع مذهب الفراء وهو أبو العباس ثعلب من قوله: «العرب تُخرج الإعراب على اللفظ دون المعاني، ولا يُفسِد الإعرابُ المعنى، فإذا كان الإعراب يفسد المعنى فليس من كلام العرب. وإنما صح قول الفراء لأنه عمل العربية والنحو على كلام العرب، فقال: كل مسألة وافق إعرابُها معناها، ومعناها إعرابها فهو الصحيح. وإنما لحِق سيبويه الغلط لأنه عمل كلام العرب على المعاني وخلّى [هكذا] عن الألفاظ، ولم يوجَد في كلام العرب ولا أشعار الفحول إلا ما المعنى فيه مطبِّق [أو: مطابق] للإعراب، والإعراب مطبِّق [أو: مطابق] للمعنى. وما نقله هشام عن الكسائي فلا مطعن فيه، وما قاسه فقد لحقه الغمز لأنه سلك بعض سبيل سيبويه؛ فعمل العربية على المعاني وترك الألفاظ، والفراء حمل العربية على الألفاظ والمعاني فبرع واستحق التقدمة، وذلك كقولك: «مات زيد»؛ فلو عاملتَ المعنى لوجب أن تقول: «مات زيدًا! لأن الله هو الذي أماته، ولكنك عاملت اللفظ فأردتَ: سكنتْ حركات زيد”. (طبقات الزبيدي 131)
هذا النص الذي بقي في الظل في غاية الأهمية بالنسبة إلى البحث المنهجي المقارن بين البصريين والكوفيين، ولم يستثمره أحد فيما رأيت. فثعلب هنا يحاول تفضيل إمامه الفراء خصوصا ومنهج الكوفيين عموما، على سيبويه خصوصا ومنهج البصريين عموما؛ بما يراه تكاملا بين اللفظ والمعنى في منهج الفراء، في حين أن منهج سيبويه مختل في نظره إذ يبني على جانب المعاني مغفلا جانب الألفاظ، وتوضيحا لكلام ثعلب أقول: يَقصِد بالمعاني معاني الأبواب النحوية، كما تبدو من خلال قوانين الصناعة النحوية ووسائلها التوجيهية، ويقصد بالألفاظ كلام العرب كما يبدو من خلال تعبيراتها وأساليبها وما تكتنفها من حقائق ومجازات وسائر ضروب الاتساعات شعرا ونثرا.
ولكنّ ثعلبا يقدم لنا من حيث لا يقصد هدية رائعة إذ يشهد بنفسه على منهجه ومنهج أستاذه والكوفيين عموما بالسمة المنهجية الفارقة في الدرس النحوي بين البصريين والكوفيين؛ فالبصريون بنوا نحوهم على المعاني النحوية (أي قصدوا في المقام الأول استنباط قوانين العربية الكلية) والكوفيون بنوا على الألفاظ مع مراعاة المعاني (أي قصدوا في المقام الأول استنباط قوانين الأساليب). وقد أصاب أبو العباس المحز المنهجي الفارق بين المذهبين إلى حد كبير؛ لذا أضيفُ تعديلا على تفسيره: أن منهج الكوفيين مال إلى جانب اللفظ لعنايته بالاشتقاق والأساليب مما يدخل حسب اصطلاح المحدثين في فرع «فقه اللغة»، في حين أن منهج البصريين هو الحقيق بوصف التكامل بين المعاني والألفاظ مع انطلاقه من المعاني النحوية؛ أي وحدات اللغة النظرية ذات العلاقات المترابطة على جميع مستويات اللغة.
ويظهر مصداق هذا الفارق المنهجي بين المذهبين في موضوعات النتاج اللغوي هنا وهناك؛ فالفراء مثلا امتاز في اللهجات ودراسة فروقها صوتيا وصرفيا ونحويا ودلاليا (له كتاب لغات القرآن). كما امتاز في بحث الاشتقاق وأصول الكلمات، كما في آرائه في أصل: إلّا (= إنَّ لا)، كَمْ (= كما)، ليسَ (= لا أَيْسَ. والدراسات السامية الحديثة تؤيد هذا الرأي وتستدل بوجود مقابل لها: إليِش)، لَهِنَّكَ (والله إنك)، اللهُمَّ (يا الله أمِّنَّا بخير)… إلخ، حتى إن ابن جني – وهو الذي ينقد الفراء وغيره من الكوفيين - أعجب برأيه في تفسير اشتقاق قولهم: «هَلُمَّ» من أنه من «هَلْ» التي للزجر والحث، دخلت على «أُمَّ» أي اعْجَلْ، دافعًا اعتراض شيخه الفارسي على الفراء (انظر الخصائص 3 / 35 – 36). كما امتاز أيضا في دراسة الأساليب (كما في كتابه الرائد: معاني القرآن)، وكما اهتمّ بقضية الخطأ والصواب (له كتاب في اللحن اسمه البهاء أو البهيّ، ويقال إن كتاب ثعلب الشهير باسم «الفصيح» مسلوخ منه)، لكن ليس له كتاب في النحو الخالص كما ترك لنا سيبويه مثلا، بل ما كان يمكنه ذلك حسب الظروف الثقافية التي وُجد فيها.
والبصريون الذين وصفهم أصحاب الطبقات بالضعف في النحو إنما كانوا كذلك لأنهم أصحاب مقاصد معرفية مختلفة؛ كأبي عبيدة الذي اتجه إلى الأساليب كالفراء فأخرج كتاب مجاز القرآن (وإن كان يقل عن الفراء كثيرا في منزلته النحوية)، وكذلك الذين وُصِفوا بميلهم إلى الكوفيين – كالأخفش الأوسط – لم يكن السبب دنيويا كما يصوره المتأخرون كطنطاوي وأمثاله؛ بل العلة الأساسية كامنة في اختلاف نوعيٍّ في مقاصد الرجل المنهجية عن باقي البصريين؛ فهو يشبه الفراء في ميله إلى الأساليب (أي «الكلام» حسب اصطلاح الألسنية الحديثة)، ولذا ألف في معاني القرآن كالفراء، وإن كان يشترك مع البصريين في عنايته بأصول النحو، أي باللغة حسب اصطلاح الألسنية.
هذا يعني أن الفراء هو أقرب إلى فئة المعلمين منه إلى فئة النحاة خلافا للتصور الشائع قديما وحديثا، هذا إذا كنا سنستعمل ثنائية «النحوي والمعلّم» التي صدرنا بها المقال، ولكن التصنيف المنهجي الأدق أن ندرج الفراء في فئة فقهاء اللغة (بالمفهوم الألسني الحديث) الذي يُعنى أصحابه بالجانب التاريخي للغة (كالاشتقاق) والجانب المقارن (اللهجات والمقارنة بينها) وجانب الأساليب الشعرية والنثرية، وجانب الصواب والخطأ ومعالجة لحن العامة. وهذا الأخير تحديدا هو الذي يُدخِله في فئة المعلمين؛ ولا جديد في ذلك فقد ذكروا في سيرته أنه تميز بالمهارة في تبسيط النحو للمتعلمين حتى حلّوا سيرته بحكاية طريفة في هذا أوردها النديم وتناقلها أصحاب الطبقات من بعده (انظر الفهرست للنديم. خلاصتها أن بعض أصحاب الكسائي سألوه أن يملي عليهم أبيات النحو، فجلس لهم وأخذ يشرح ويبين، فقالوا إن دام هذا على هذا علم النحو الصبيان! والوجه أن نقعد عنه! فقعدوا، وهذا بعكس طريقة الأخفش الذي كان - فيما حكاه الجاحظ عنه في كتاب «الحيوان» - يتعمد تصعيب النحو على الطلاب حتى يحتاجوا إليه!).
مع أن الفراء كان من أهل فقه اللغة - حسب تصوري، خلافا للتصور الشائع عنه قديما وحديثا - إلا أنه كان له شيء من الاهتمام بالنحو النظري العميق؛ بل حاول أن ينافس فيه أثر البصريين الخالد (كتاب سيبويه)؛ فذكروا في سيرته أنه مات وكتاب سيبويه تحت وسادته! (ولأبي موسى الحامض - وهو كوفي متعصب، وصفه أبو الطيب اللغوي بالجنون من شدة عصبيته! - تعليلٌ عجيب لهذا الاهتمام الشديد بكتاب سيبويه وهو أن الفراء كان لا يفارقه الكتاب لأنه كان يتتبع خطأه ولُكْنته!). كما ذكروا له كتابا باسم «الحدود» لكنه مفقود.
وعلى أية حال لسنا بحاجة إلى التأكد من حكاية الموت على كتاب سيبويه ولا الاطلاع على ذلك الكتاب المفقود «المنسوب» إليه؛ فإن محاولة الفراء هذه ظاهرة في كتابه الأسلوبي الذي وصل إلينا وهو معاني القرآني، ولكنها مع الأسف محاولة فاشلة مع كل التقدير لذلك العَلَم الكوفي الشهير؛ فهي ليست سوى مناكفات لفظية؛ فيسمى الفراء بعض مصطلحات البصريين بأسماء مغايرة لفظا والمقصود واحد؛ كتسميته الجر: خفضا، والظرف: صفة، وحروف الجر: حروف الصفات، والعطف: النسق، ومفاعيلن في العروض: فعولان... إلخ، أو «تخليطات» بتعبير أبي الطيب اللغوي؛ كمفهوم «التقريب» الذي ينصِب (كما في: هذا القمر منيرا، فالتقريب عنده هو اسم الإشارة، ومنيرا منصوب به!)، وكالقول بأن المنصوب بعد كان وأخواتها حال أو شبه حال، ومرفوعها فاعل بها، وأن شبه الجملة هو الخبر نفسه لا متعلَّقهما المقدر، والقول بالنصب على الخلاف… إلخ.
ومن هذا التخليط الذي وصفه به محقًا أبو حاتم البصري ما ذهب إليه الفراء من أن اسم الفاعل قسم رابع مستقل من أقسام الكلمة لكونه -حسب رأيه- يأتي مرة اسما ومرة فعلا؛ فإذا عمل النصب كان فعلا (كما في: إني خالقٌ بشرا) وإذا لم يعمل كان اسما (كما في قولنا: الله خالقُ البشرِ). وهذا خلط في تحليل الوَحدة اللغوية بين مستويين من مستويات اللغة؛ مستوى الصرف ومستوى السياق التركيبي؛ فاسم الفاعل إذا أشبه المضارع لفظا ومعنى عمل عمله (لفظًا: المطابقة في الحركات والسكنات، ومعنى: الدلالة على الحال أو الاستقبال) وهذه الشروط لا تتحقق إلا في السياق، فهي قيود تركيبية لا تلغي أصل البناء الصرفي للوحدة خارج السياق، فيظل في نطاق الأسماء وإن قرّبتْه مشابهتُه المضارعَ في بعض السياقات من قسم الأفعال؛ فهذا لا يعني أنه قسم مستقل ليس باسم ولا فعل كما فهم الفراء! فهذا تخليط واضح وضعف في التصور المنطقي يترتب عليه خلل في التقسيم. والنحوي الماهر -في أي لغة كان درسُه وبحثه- لا يضطرب نظرُه من مثل هذا التغير السياقي السطحي الطارئ على البنية الأصلية العميقة للوحدة اللغوية، لأنه يفرق بين المستويات، ولأنه يعلم أيضا حرية اللغة التي تمنح الوحدات في ميدانها الواسع (ميدان الكلام) سعةَ التحرك ومرونة الابتعاد والاقتراب عن أصل وضعها، حسب حاجات الاستعمال التي يضطرب بأفانينها الكلام .
هذه الحقيقة اللغوية المميِّزة بين ثبات «اللغة» وتغير «الكلام» لا يدركها إلا النحوي الماهر أمثال الخليل وسيبويه لا المشغول بفقه اللغة الذي يتتبع الأساليب والاشتقاق والخطأ والصواب كأمثال الفراء، فهو ليس له نظرية نحوية ذات رؤية منهجية كما عند الخليل وسيبويه، وإن زعم أصحابه القدماء ذلك (كثعلب) وإن زعم ذلك أيضا بعض المحدثين المتحمسين (كأستاذنا أحمد مكي الأنصاري في كتابه المعروف عن الفراء، وقد بالغ جدا وركِبَ أمورا نافس فيها أبا موسى الحامض! رحمه الله وغفر له).
لكن الفراء حينما دخل ميدان النحو بهذه المقاصد «غير المعرفية» أو «المقاصد المدخولة» التي يختلط فيها العلم بالهوى نصب أول راية في تاريخنا النحوي للنشاط النحوي «العابث»! مع الاعتذار عن هذه العبارة في حق شخصية محترمة كالفراء، لكنها الحقيقة فيما أرى.
وإلى هذه السابقة المؤسفة يمكننا رَجْعُ كل صور العبث بالمعرفة اللغوية فيما ظهر لاحقا من محاولات أسوأ جدًا من محاولات الفراء؛ وذلك كمحاولة ابن مضاء الظاهريّ الذي قدم لنا أنموذجا للفكر الصبياني الظاهري في القرن السادس! وهو الأنموذج الذي صار في العصر الحديث دافعا وسندا تراثيا لفكرٍ صبيانيٍ حديث، إضافة إلى الدافع الغربي الخارجي المتمثل في الوصفية السوسيرية؛ ذلك الفكر الحديث هو المتمثل في العبث الذي قدمه أمثال إبراهيم مصطفى وإبراهيم أنيس وتمام حسان (رحمهم الله جميعا وجزاهم خيرا على حسناتهم وغفر لهم أخطاءهم)، وإن كان تمام حسان هو أفضل هؤلاء وأذكاهم. ولكن لهذا حديث آخر لعله يتاح لي تفصيله في مقال آخر.
** **
د.خالد الغامدي - جامعة الطائف