لم تعد اللغة العربية غريبة عن القاعات الأكاديمية البريطانية، حيث غدت العربية جزءًا أصيلًا من المشهد الأكاديمي البريطاني المتنوع ثقافيًا ولغويًا. ففي جامعات مرموقة مثل جامعة لندن - كلية الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS)، جامعة أكسفورد (University of Oxford)، جامعة كامبريدج (University of Cambridge)، جامعة إدنبرة (University of Edinburgh)، جامعة ليدز (University of Leeds)، جامعة مانشستر (University of Manchester)، جامعة دورهام (Durham University)، جامعة إكستر (University of Exeter)، تُدرّس العربية اليوم بوصفها لغة حيّة تجمع بين الأصالة والحداثة، وتحمل في طياتها تاريخًا طويلًا وثقافة غنية.
تُدرّس العربية اليوم بوصفها لغة حيَّة تجمع بين الأصالة والحداثة. لقد تجاوز تعليمها الإطار اللغوي التقليدي ليصبح حقلًا متكاملًا يجمع بين اللغة والأدب والثقافة والسياسة، مما يعكس وعيًا متناميًا بأهميتها في فهم العالم العربي وتاريخه وفكره المعاصر.
حيث يُقبل مئات الطلبة البريطانيين والأوروبيين وغيرهم سنويًا على دراسة العربية لأسباب متعددة؛ فبعضهم يسعى لفهم العالم العربي سياسيًا واقتصاديًا، وآخرون ينجذبون إلى آدابها أو يطمحون للعمل في مجالات الدبلوماسية والإعلام. هذا الإقبال يعكس وعيًا متزايدًا بقيمة اللغة بوصفها جسرًا للتفاهم الحضاري، لا مجرد أداة للتواصل.
تجربة جامعة ليدز: نموذج للتكامل الأكاديمي والثقافي
ويتجسد هذا الاهتمام في جامعة ليدز عبر برنامجها المتميز «الدراسات العربية والإسلامية والشرق أوسطية»، الذي يتيح للطلبة دراسة الفصحى إلى جانب الثقافة والمجتمع العربي، مع سنة دراسية إلزامية في بلد عربي. وخلال تجربتي الأكاديمية هناك، لمست عن قرب مدى الجدية المنهجية التي توليها الجامعة لهذا المجال، حيث يمتاز برنامجها بدمجه المتوازن بين الدراسة اللغوية والبعد الثقافي، مع تركيز خاص على الجوانب التواصلية. وهو ما يجعل العديد من الطلبة يعتبرون سنة الابتعاث الحدث الأبرز في مسيرتهم الدراسية؛ لما تحمله من ثراء لغوي وفرص للاندماج واكتشاف الثقافة العربية عبر معايشة يومية غنية.
بين تحديات الواقع وآفاق المستقبل
على الرغم من هذا التقدم، لا تزال هناك تحديات قائمة، أبرزها قلة الكفاءات المتخصصة، وغياب توحيد المناهج، وندرة الموارد الرقمية التفاعلية. لكن هذه التحديات تقابلها فرص واعدة؛ إذ يتجه المشهد الأكاديمي نحو توحيد المعايير وفق الإطار الأوروبي للغات (CEFR)، وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتعزيز التعاون مع الجامعات العربية، مما يبشر بمرحلة جديدة من التطور النوعي. ويُعد مؤتمر الجمعية البريطانية لمدرّسي اللغة العربية (BATA Annual International Conference) الذي يُقام سنويا في إحدى الجامعات البريطانية، نموذجًا لهذا الحراك النشط، حيث يجمع الأكاديميين لتبادل الخبرات ومناقشة أحدث التطورات في تعليم العربية ولسانياتها وترجمتها، كما تعمل الجمعية على تسهيل الشراكات بين المؤسسات داخل بريطانيا وخارجها.
نحو شراكات فاعلة: استثمار الخبرات وتوحيد الجهود
إن تجربة الجامعات البريطانية تُبرز بوضوح الحاجة إلى شراكات مؤسسية مع نظيرتها السعودية. فالطلب المتزايد من الطلبة الأجانب لقضاء عام دراسي في بلد عربي لتعلّم اللغة في بيئتها الأصلية، وهذه فرصة ثمينة يمكن استثمارها من خلال برامج التبادل الأكاديمي وتوسيع نطاق استقطاب الطلبة الأوروبيين في الجامعات السعودية، مما يعزِّز التفاهم الثقافي ويقوِّي الحضور الأكاديمي للمملكة على الصعيد الدولي. وهنا يبرز دور مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية كمؤسسة رائدة وقوة ناعمة سعودية، قادرة على بناء جسور التعاون. ولتحقيق تكامل إستراتيجي، يمكن للمجمع تعزيز شراكته مع الجامعات البريطانية عبر توقيع مذكرات تفاهم، ودعم المشاركات البحثية في المؤتمرات الأوروبية مثل «BATA»، واستضافة فعاليات علمية مشتركة.
إن الجمع بين الخبرة الأكاديمية البريطانية والريادة المؤسسية لمجمع الملك سلمان والجامعات السعودية ذات الاختصاص يمثل خطوة حاسمة نحو توحيد الجهود لخدمة اللغة العربية عالميًا، وترسيخ حضورها في الجامعات الكبرى بوصفها لغة علم وحوار وإنسانية.
خاتمة: دعوة لمستقبل مشترك
في نهاية المطاف، إن خدمة اللغة العربية وتعزيز حضورها العالمي ليست مسؤولية جهة بعينها، بل هي مهمة حضارية مشتركة تتطلب تضافر الجهود بين المؤسسات الأكاديمية في الشرق والغرب. إن بناء جسور من التعاون البحثي والطلابي لا يخدم اللغة فحسب، بل يعزز الحوار بين الثقافات، ويقدم للعالم صورة مشرقة عن لغة قادرة على العطاء والتجدد. لقد حان الوقت لتحويل هذه الفرص إلى واقع ملموس، وصناعة مستقبل تكون فيه العربية مكونًا أساسيًا في المشهد المعرفي العالمي.
** **
د. عادل بن مصيلح المظيبري - أستاذ أكاديمي بجامعة الطائف