عندما نسمع كلمة «الوله» واشتقاقاتها ينتابنا على الفور شعور من نوع خاص، شعور من الأعماق ممزوج بشيء من العاطفة والشوق والحزن وأشياء أخرى يتفاوت الناس فيها بحسب مامروا به أو يعيشونه عندما يخترق قلوبهم قبل مسامعهم ذلك الجرْس اللفظي لتلك الكلمة المكونة من ثلاثة حروف»و ل ه» التي تعني في معاجم وقواميس اللغة:
إشتداد الحزن حتى يكاد يذهب معه العقل، والتحيُّر من شدَّة الوَجْد،وولَهُ الصَّبيُّ إلى أمِّه يعني فَزعه إليها، وولَه الأُم إلى ولدِها يعني حنينها إليه.
والوله في عالم العشاق والمحبين حالة يعيشها المغروم بعد أن يكون قد وصل إلى مرحلة متقدمة من الوجد والهيام بمحبوبه.
لكن المولَّه وصحبه المولَّهين المعنيين في هذا المقام هم طائفة من المتصوفة شربت الحب حتى تشرّبت به، وأُغرِمت بمحبوبها حتى غرَمت في سبيله حالها.
والمتأمل في أحوالهم يكاد يلتبس عليه أمرهم بحكم الشواهد والعلامات التي يراها في ظاهر شخوصهم وقسماتهم بعد أن طافت بأعماقهم وبواطنهم،لأنهم ليسو من أولئك المتيمين المستهامين ببعيد.
إنهم عشّاق بلغوا درجة عالية من الحب والشوق لله،وهم في حالة دائمة من الاشتياق لمناجاة محبوبهم ولقائه، بعد أن مروا بعدة مراحل في طريق سيرهم إلى ربهم حتى يصلوا إلى حالة الوَله التي هي المرحلة الأخيرة، وفيها يذوب واحدهم في حب الله ويصبح مأخوذاً به.
وقد ظهر مصطلح «المولَّه» و «المولَّهين»
بشكل واضح وانتشر بين الخواص والعوام في العصور التي تفشى فيها التصوف وذاع صيته وحظي بالرعاية والعناية من قبل السلطات الحاكمة في تلك الحقب.
ولذلك نجد أن هذا الوصف منتشر على ألسنة العلماء وفي كتاباتهم ولاسيما الذين عاصروا جذوة التصوف وناقشوا الأخطاء التي يرتكبها المنتسبون إليه وردوا عليهم وبينوا الحق من الباطل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في معرض كلامه عنهم: «والمجانين منهم من يكون مع جنونه له نصيبٌ من الإيمان أو الكشف ونحوه، وقد يُسمى هؤلاء عقلاءَ المجانين، وقد يسمَّون المولَّهين»، إلى أن قال:»وأنهم يَعُدُّونَ التَّوَلُّهَ والتجَانُنَ وقِلةَ العقل والخروجَ عن العقل والدين قُرْبَةً وطاعةً، ويوهِمون الجُهَّالَ والأغْمَارَ من الأعراب والأتراك والفلاَّحين والنِّسوان أنَّ هؤلاء صَفْوَةُ الله تعالى، وإنَّ هؤلاء قد وَرَدَ عليهم مِن الأحوالِ ما جعلهم هكذا، فيتصرَّفُون في النفوس والأموال تَصَرُّفُ اللِّصِّ الخادع والمنافقِ المُخادع، مُوهِمِينَ حُصُولَ البركةِ».
وهذا يكشف الزيف والتصنع الذي يعمد إليه أولئك المدعون لتسويق أنفسهم وتقديمها للعوام والجهال لاستجلاب تعاطفهم واستجداء عواطفهم.
وشتان ما بين وله العاشقين وتولُّه المدعين!
** **
- فايز بن محمد الناصر الزاحم