من الضروري أن يكون مدخلنا إلى فهم الدور الذي تنهض به الفانتازيا والغرائبية والواقعية السحرية جلاء دلالتها وفهم معناها، والتمييز بينها وبين المصطلحات الأخرى التي تتقاطع معها؛ فالأدب الفانتازي يعتمد على عناصر خيالية غير واقعية، مثل السّحر والمخلوقات الأسطورية والعوالم غير المنظورة؛ لإبداع لون من ألوان السرد أو الشعر يأخذ القارئ إلى أبعاد خارجة عن المألوف؛ مثل المخلوقات الخفيّة والجان والأشباح، أو ما نتصوّره من عوالم مُتخيّلة تفسيراً وترميزاً وتأويلاً لرؤية فنيّة لإشكالية أو فكرة أو قضيّة.
تتكوّن الفانتازيا من عوالم مُتخيَّلة مثل ميدل إيرث في «سيد الخواتم» لتولكين، وهي رواية خيالية ملحمية كتبها (ج.ر.ر. تولكين) نُشرت في ثلاثة أجزاء بين عامي 1954 و1955: (رفقة الخاتم، البرجان، وعودة الملك) تُعتبر واحدة من أعظم الأعمال الأدبية في القرن العشرين، وتقع أحداثها في عالم خيالي يُدعى (الأرض الوسطى) وتدور الرواية حول الخاتم الواحد، وهو خاتم سحري قوي صنعه اللورد المظلم ( سورون ) للسيطرة على العالم، ولكنه بعد أن فقد الخاتم، يصل ذلك الخاتم إلى يد شاب يُدعى (فروكو باجنز) يكتشف الساحر (غاندالف) أن الخاتم يجب أن يُدمّر لمنع سورون من استعادة قوته. يُكلف ( فروكو) بمهمة خطيرة للسفر إلى جبل الهلاك في (موردور) لإلقاء الخاتم في النار التي صُنع منها.
متمثلاً الصراع السلطة والفساد: تأثير الخاتم على من يحاول امتلاكه والأمل والمثابرة.
ألهمت هذه الرواية العديد من الأعمال الأدبية والفنية، وتُرجمت إلى عشرات اللغات؛ كما أُنتجت ثلاثية أفلام شهيرة (2001 - 2003) أخرجها بيتر جاكسون، وحققت نجاحًا عالميًا، وعالم تولكين غني بالتفاصيل، مع لغات وتاريخ وثقافات خيالية مثل ما يتعلق بالأقزام، مما يجعلها تجربة فريدة ، وهذا نموذج من الأدب العالمي الذي يتوسّل بالفانتازيا للتعبير عن رؤية معينة وتشير المصادر إلى أنواع من الفانتازيا:
فانتازيا عالية (High Fantasy): عوالم كاملة متخيلة (مثل «سيد الخواتم».. فانتازيا منخفضة (Low Fantasy): عناصر سحرية في العالم الواقعي (مثل «هاري بوتر»).. وفانتازيا مظلمة (Dark Fantasy): مزيج من الفانتازيا والرعب (مثل «أغنية الجليد والنار»).
ويشير النقاد إلى دور الفانتازيا في التعبير عن القيم والأخلاق وما يعكسه من صراعات إنسانيّة رمزية مثل الخير ضد الشر، الشجاعة، والتضحية والهروب من الواقع؛ إذ يوفر للقارئ عالمًا بديلًا للهروب من ضغوط الحياة اليومية ويشجع القراء على التفكير خارج الصندوق من خلال استكشاف المستحيل ومعالجة قضايا اجتماعية بشكل رمزي، حيث يستخدم الرموز لمناقشة قضايا مثل العنصرية أو السلطة.
تعود الجذور التاريخية للأدب الفانتازي إلى الأساطير والملاحم القديمة مثل «الإلياذة» و»الأوديسة» لهوميروس، و»ملحمة جلجامش»، التي تضمنت آلهة ومخلوقات خارقة ؛ أما الفرق بين الفانتازي والعجائبي فيكمن في طبيعة العناصر الخيالية والسياق والطريقة التي يتم بها تقديم الأحداث غير الواقعية؛ فالفانتازيا نوع أدبي يعتمد على خلق عوالم متخيّلة كليًا أو جزئيًا، مع عناصر خيالية (مثل السحر، المخلوقات الأسطورية) تُقدم كجزء طبيعي من هذا العالم؛ فغالبًا يتم بناء عالم كامل بقوانينه الخاصة تُعتبر طبيعية ضمن سياق العالم السردي، ولا تثير دهشة الشخصيات ؛ أما العجائبية فمفهوم أدبي يركّز على الأحداث أو العناصر الخارقة للطبيعة التي تظهر في سياق واقعي، وتثير الدهشة أو التساؤل لدى الشخصيات والقارئ ، والمقصود بالسياق الواقعي أن ما يحدث يكون في عالم يشبه الواقع، لكن مع تدخل عناصر خارقة غير متوقّعة لا يتم فيها تفسير العناصر الخارقة، مما يترك القارئ في حالة تساؤل، وأكثر التركيز فيها على التأثير النفسي والرمزي لهذه الأحداث بدلاً من بناء عالم خيالي كما في قصة «مسخ» لكافكا، حيث تحوّل (جريجور سامسا) إلى حشرة عملاقة في عالم واقعي، مما يثير دهشة الشخصيات ويترك القارئ في حيرة دون تفسير، والهدف في الواقعية السحرية بناء عوالم وصراعات ملحميّة وخلق شعور بالدهشة أو التأمل الفلسفي. كما في رواية «مئة عام من العزلة»، والعجائبي قد يكون جزءًا من الفانتازيا، لكنه أكثر ارتباطًا بالواقعية السحرية (Magical Realism)، حيث تُدمج العناصر الخارقة في سياق واقعي دون تفسير (مثل أعمال غابرييل غارسيا ماركيز).
الفانتازيا تركز على خلق عالم متكامل، بينما العجائبي يركز على لحظات أو أحداث خارقة في سياق مألوف ، والفانتازي في الشعر يعتمد على خلق عوالم متخيلة أو عناصر خيالية تُدمج كجزء طبيعي من السياق الشعري، وغالبًا ما تُستخدم للتعبير عن قضايا رمزية أو ملحمية، والسياب أحد أبرز شعراء الحداثة، استخدم الفانتازي في بعض قصائده للتعبير عن الحنين والرمزية.
وفي الشعر القديم: الفانتازي كان شائعًا في قصص الجن والغيلان (مثل شعر الشنفرى الذي يصف الذئب ككائن أسطوري تقريبًا)، بينما العجائبي كان أقل وضوحًا لأن الشعر كان يميل للواقعية أو المبالغة البلاغية.
أما في الشعر الحديث فإن شعراء الحداثة مثل السياب ودرويش، وأدونيس استخدموا الفانتازي والعجائبي بكثرة للتعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية بطرق رمزية (مثل قصائد درويش عن فلسطين) ومن الشعراء السعوديين ، مثل القصيبي والثبيتي، تأثروا بحركات التجديد الشعرية التي مزجت بين التراث العربي والحداثة الغربية، مما سمح لهم باستخدام الفانتازيا بطرق مبتكرة مستوحاة من الفانتازيا غالبًا تُستخدم للتعبير عن قضايا وطنية (مثل الأمل عند القصيبي) أو شخصية (مثل الاغتراب عند الثبيتي) وقصيدته الشهيرة ( التضاريس) التي تجمع بين الأسطوري والفانتازي والعجائبي ، مع الحفاظ على الجذور العربية من خلال الرموز الطبيعية (الصحراء، القمر). وكذلك الشاعرات السعوديات مثل ثريا قابل يستخدمن الفانتازيا لإبراز الهوية الأنثوية .
توظيف الفانتازي والعجائبي في فن الرواية يُعد ّمن الأساليب الإبداعية التي تتيح للكاتب استكشاف عوالم جديدة، إثارة الدهشة، ونقل الأفكار بطرق رمزيّة وغير تقليدية كما في «عزازيل» ليوسف زيدان، الراهب (هيبا) يعيش في سياق تاريخي واقعي (مصر القرن الخامس)، لكن ظهور الشيطان عزازيل كشخصية مُتخيّلة يعكس صراعه الداخلي بين الإيمان والشك.
الرواية السعودية تضم عناصر الفانتازيا والواقعية السحرية، حيث تُستخدم لخلق عوالم خيالية تتفاعل مع الواقع ؛ فعلى سبيل المثال روايات رجاء عالم تجمع بين الواقعية والخيال، حيث تظهر عناصر مثل انتقال البطلة إلى عالم غير مرئي أو استخدام آلة زمنية تُستخدم هذه العناصر لاستكشاف قضايا اجتماعية، مثل مكانة المرأة، مع التركيز على الرمزية والأبعاد الروحية.
أما روايات أسامة المسلم فقد أثارت جدلاً واسعاً بين نقاد كبار، مثل الدكتور عبد الله الغذامي، والدكتور سعد البازعي الذي وصفها بأنها سطحية وبلا رسالة ، بينما يرى الدكتور الغذامي غير هذا الرأي، وقد ميّز بين ما هو شعبي وشعبوي وما هو جماهيري متحدّثاً عن الفصحى المحكية في إشارة إلى لغة السرد عند أسامة المسلم واصفاً إياها باللغة الشابة اليافعة ، ومتمثلاً قول هنري ميشو» أيتها البساطة الجميلة كيف لم أكتشفك»، ومشيراً إلى أن الخطاب فيها مصحوبة بإغراء الخيال البسيط الذي يلامس العتبات الأولى للوجدان ، ويتسلل للتصور برخاء وتلقائية كما هي سمة خطاب شهرزاد، فتتميز بتلقائية اللغة وتلقائية الخيال مستعيراً مقولة ابن سينا عن (الغش النافع) الذي وُصف به الكذب الشعري في قراءته لروايات أسامة المسلم ؛ بينما وصفها الدكتور البازعي بالفقاقيع السرديّة وبالأدب البسيط السهل الذي لا يحتاج إلى تفكير، لأنه كله جن وعفاريت وإثارة وأن أدب الفانتازيا أدب تسلية وإمتاع ، علما بأنّ رواياته تجاوزت الثلاثين عدداً وحازت على شعبيّة جماهيريّة حدّ الزحام للوصول إلى توقيعها في المغرب العربي ، ومهما يكن من أمر فإن عنصر الذوق في النقد قديمه وحديثه له دوره في تقييم الأعمال الإبداعية، وكذلك المعايير التي تقاس بها قيمة الأعمال الأدبية ، فلا تثريب عليهما فيما ذهبا إليه ؛ فالمعروف أن هناك طرائق متعددة في قراءة العمل الأدبي أهمها : القراءة المعيارية التي تصطنع مقاييس محدّدة والقراءة الإبداعية التي تبدع نصّاَ نقديّا موازياً.
فضلاً عن الزاوية التي ينظر من خلالها الناقد ؛ فإذا كانت رؤيته للعمل الأدبي رؤية عامة ذات طابع مرن رحب تجعله يعتدّ بالبعد الإمتاعي الثقافي المحض للنص، ونجاحه في تشويق القارئ دون اعتبار للمعايير الجمالية والرؤيوية الأخرى فإن نظرته تكون إيجابية ؛ وكذلك إذا اعتد بالفانتازيا أو العجائبية بوصفهما ملمحين جماليين قابلين للتأويل تمخضان عن فكر رصين ؛ وأما إذا كان الناقد لا يعتدّ بذلك ويرى أن توظيفهما لا يؤدي غرضاً ذا قيمة جمالية أو رؤيوية وأنهما مجرد وسائل للتسلية والإدهاش فنظرته إليهما سنكون سلبية بالتأكيد ، وللنقاد فيما يرون مذاهب.
** **
- د.محمد صالح الشنطي