كنا يوم الخميس الماضي بضيافة الوجيه محمد السبيعي في منزله العامر في الضبيعة في الخرج. واجهنا البشاشة والترحيب والكرام الحاتمي من الصغير والكبير، لذا يحتم ما واجهنا أن نقول: إن أهل الخرج في قائمة: أهل البشاشة والكرم. أعود للخرج لأقول: تمثِّل الخرج إحدى قواعد اليمامة الاستيطانية الرئيسة؛ وقصتها تحكى قصص: قصة الحديث عن تاريخ هذه الواحة، قصص الأمم والقبائل التي مرت بها واستقرت ثم رحلت وحلت بأرض أخرى؛ قصة الاستقرار والازدهار والحضارة، قصة الزراعة والاقتصاد المتين، قصة الممالك القديمة، قصة التكامل الاقتصادي بمفهومه العام، قصة تكامل الاقتصاد الرعوي والاقتصاد الزراعي والاقتصاد التجاري، وقصة الدور الاقتصادي الذي أجبر قريش على الطاعة والانصياع للحق.
الخرج عبارة عن صرر من عقد التاريخ بمختلف محطاته، لذا فهي مخزن لأسراره وجزء كبير منه تطمره الرمال في مواقعه، ولا يزال يتحين مسحاة الأثري لتزيل عنه ما حجبه. الجميل في تلك الصرة أنها لم تفكك، وما زالت أسررها مستترة بإطارها العام. الأجمل أن ندرك أن علينا القيام بتفكيكها، ونشرع في البداية، فكل مبتدأ له خبر، وإلا لا معنى للابتداء. ولكن، من الناحية الأخرى، لكل شيء مهر، وبلا مهر لا قيمة للشيء، وعليه فالسؤال هو: هل بمقدورنا أن ندفع ذلك المهر؟ وأقصد، هل لدينا الرغبة ثم القدرة على التفاني وبذل الجهد من أجل معرفة المجهول من خلال الاستفادة من المعلوم الذي قد يتدفق من دراسة الجوامد، وأقصد بالجوامد آثار الإنسان القديم مهما كانت صغرة، ومهما كبرت. فالهدف معلومة جديدة، التاريخ لا يكتب إلا من القديم القابل للاستنطاق. التوقعات والروايات والتصورات لا تبني تاريخاً بمصداقية مقبولة، المعلومات التاريخية تُقبل بالدليل البين. هل تستطيع أن تصدق أن عنترة يهزم جيشاً لوحده؟ التاريخ يروي إليك ذلك، والواقع يكذب روايته في مواضع كثيرة.
كنت يوم الأربعاء الماضي مع جمع كبير من المثقفين ورجال التعليم في مجلس الشيخ محمد السبيعي في مركز الضبعية في محافظة الخرج. كان من بين الحضور شخصيات مثقفة من نواحي الخرج المختلفة وعدد من أشهر المؤرِّخين والفنانين نناقش الآثار والتاريخ وتحركات القبائل قبل توحيد المملكة العربية السعودية على يدي المغفور له الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل. في المجلس الذي أشرت إليه آنفاً سألني أحد الحاضرين: ماذا تجد في الخرج لتكتب عنها؟ قصداً منه أن يحرك من باب المزاح مشاعر أحد سكان الخرج الجالس بالقرب منا، ومن المهتمين بتاريخ تلك الواحة. أجبت السائل باني عندما أشعر بضيق بال التفت صوب الجنوب فتسقط صورة واحة الخرج في ذهني فتريحه من ذلك الضيق. أظن أن قولي قد أجاب عن سؤال ذلك الرجل، قولي المنطوي على اعترافي بأنني أجد في الكتابة عن واحة الخرج الراحة النفسية، لأنها موطن للراحة ليّ ولغيري بجمالها الأخضر، وجمالها الأحمر، وجمالها الأزرق، وجمالها الأرجواني؛ ولها أيضاً في بقايا ألوان الجمال نصيب.
قابلنا في مجلس الأستاذ ورجل الأعمال محمد السبيعي الأساتذة: محب الآثار أ. عبدالرحمن الحسين المشرف على منصة مجموعة زمن الخرج الجميل، ود. منصور الحويطان، وأ. محمد المنصور، وأ. سعد المدهش، وأ. منصور العمري، ورجل الأعمال عبدالله بن قرار الحربي، والعميد ناصر بن محمد الحسين، والعميد عبدالرحمن بن عبدالله الخزيم، ورئيس مركز الضبيعة على بن هديهد السبيعي، والفنان حمدي سعد، وأ. عبدالرحمن الطعيمي الملحق الديني السابق في سفارة المملكة العربية السعودية في كينيا، وجمع من الشباب المثقف المتصف بالأدب وبحب الأدب والمعارف التاريخية.
انعطف إلى التاريخ لأكتب: لقد شكّلت الخرج موطناً أساسياً لفرع معاوية «الجون» بن حجر آكل المرار الكندي في القرن السادس الميلادي. توفي الملك الكندي المخيف حجر آكل المرار بن عمرو هرماً، فخلفه ابنان، أحدهما يُسمى عمرو وهو الأكبر ويلقب بـ»المقصور» وعليه فهو الوريث لأبيه والحاكم العام لمملكة كندة من بعده؛ ومعاوية ويلقب بـ»الجون» لميل بشرته إلى السواد «المخضر» الذي حكم ولاية اليمامة حكماً شبه مستقل مع بقائه تابعاً لأخيه في العلاقات الخارجية والحروب.
استمر حكم سلالة معاوية «الجون» لليمامة مدة من الزمن بدأت بوفاة الملك الشهير حجر آكل المرار الكندي في منتصف القرن الخامس الميلادي وحتى زوال مملكة كندة في منتصف القرن السادس الميلادي بعد انهزام التحالف الذي تزعمته كندة من خلال الفرع المذكور آنفاً في معركة شعب جبلة. قُتل الأميران الكنديان في تلك الوقعة المخيفهة، فاندحر جيش التحالف الذي يُعَدُّ من أكبر جيوش العرب في الجاهلية، إذ قيل إن جنود أحد أطراف الحرب بلغ ثلاثين ألف جندي. يكاد يتفق المؤرِّخون على أن نتيجة هذه المعركة قضت على ولاية كندة الشرقية وألحقتها بالولاية الغربية التي سبقتها في الزوال، وبهذا تكون مملكة كندة قد انتهت من على المسرح السياسي بعد أن عاشت عمراً قدره بعضهم بمائة سنة تقريباً. تشير الدلائل التاريخية والآثارية إلى أن الخرج كان مستوطناً خلال القرن الذي تلا سقوط مملكة كندة، بل كان مقراً لفرع من أقوى فروع بني حنيفة عند بزوغ الإسلام، ذلك الفرع الذي دخل في الإسلام وبدخوله أصبحت الخرج إحدى حواضر الدولة الإسلامية منذ بداية قيامها.
تماثل نمطية الاستيطان في وادي الخرج نمطية الاستيطان في الأودية الأخرى في الجزيرة العربية بشكل عام والمملكة العربية السعودية بشكل خاص. على سبيل المثال كان الاستيطان على جوانب وادي حنيفة متناثراً في قرى عديدة قصّ علينا الهمداني قصتها في كتابه «صفة جزيرة العرب» ليخبرنا أن الخارج من الخرج يمكنه أن يصل إلى حجر قاعدة وادي حنيفة سيراً على قدميه لمسافة مائة كيلومتراً تقريباً دون أن يتزوّد بماء أو زاد، لأنه يخرج من بلدة ويحل في أخرى دون وجود مسافات بينها تستوجب حمل الزاد والماء. هذا يدل على قرب البلدات الواقعة على وادي حنيفة من بعضها البعض. نجد أن هذه النمطية تتمثّل في استيطان وادي ملهم القريب من وادي حنيفة وهو الشيء الذي نشاهده اليوم متمثلاً بالقرى والمزارع التي تمثِّل قرى صغيرة الحجم قد تنمو الواحدة منها لتصبح بلدة متجاوزة حجم القرية الاعتيادي. ومما جاء في كتب البلدانيين نجد النمطية متمثلة في وادي الرمة أضخم أودية الجزيرة العربي. ونجد الشيء نفسه على جنبات وادي حائل.
تميزت المملكة العربية خاصة بهذه النمطية الاستيطانية خلال عهود من تاريخها. نجد هذه النمطية في أوضح صورها متمثلة في وادي الخرج سواء خلال العهود القريبة من عهدنا أو العهود الأبعد. فمن يلقي نظرة على خارطة الخرج يجد القرى المتناثرة في أرجاء الوادي والتي أصبحت اليوم مراكز سكانية كبيرة. ومن يسير على الهضاب وأجزاء الوادي يجد بقايا مستوطنات الإنسان القديم متناثرة في النمطية ذاتها، تلك البقايا التي لم يُعرف منها ويُعرّف إلا القليل مما يمكن أن يعْرف مما تركه الإنسان الذي عاش في وادي الخرج قديماً. بقي أن أقول: لنا أمل أن نكتب قصة ذلك الاستيطان والتاريخ بالاستناد إلى ما تركه الإنسان من آثار ثابتة ومنقولة؛ ظاهرة ومخفية، وأن نرسم صورته. فإن أردت الواقعية، فالوادي جميل وقديم التكوين، وعليه يستحق كل جميل مفيد، ومن يحل في الوادي سوف يرى ما رأيت.
بارك الله للخرج بأهلها وأرضها وماءها وبكل مفيد.
وإلى لقاء آخر بإذن الله تعالى.
** **
- أ.د. عبدالعزيز بن سعود بن جارالله الغزي