تتميز روايات الخيال العلمي بنوع من الخيال التأملي، يتضمن عناصر خيالية لا وجود لها في العالم الواقعي. يتناول الخيال العلمي مجموعةً واسعةً من المواضيع، التي غالبًا ما تستكشف السفر عبر الزمن والفضاء، وتدور أحداثها في المستقبل، وتتناول عواقب التقدم التكنولوجي والعلمي.
من هذه الروايات رواية عودة الشر لخالد الحقيل من سلسلة «روايات سعوديات»، وهي رواية تتناول طموح الإنسان السعودي ومجاهيل الفضاء الخارجي والصراع بينهما في سرد حكائي مثير. وعند التمعن في هذه الرواية نجد أنها تقبل الدراسة عبر المنهج السيميائي حسب منظور «شارل سندرس بيرس».
يعتبر المشروع اللساني الذي وضع أسسه العامة عالم اللسانيات فرديناند دي سوسير مبشرًا بميلاد علم جديد هو «السيمولوجيا» أو «السيميوطيقا» أو «السيميائية» والسيميائية تعني علم العلامات. والمنهج السيميائي منهج يبحث في العلامات اللغوية وغير اللغوية وفي دلالاتها المختلفة. وبلور «تشارلز سندرس بيرس» رؤية جديدة ومنهجًا لدراسة النصوص يتكون بشكل رئيس من ثلاثة مؤولات: المؤول المباشر، والمؤول الدينامي، والمؤول النهائي الذي يتجلى في عدد من الأبعاد والوظائف التأويلية في الرواية، وهذا المنهج السيميائي (البيرسي/ حسب رؤية بيرس) هو ما سنعتمده في قراءة هذه الرواية.
عند إمعان النظر في هذه الرواية نجد علامة جامعة تجمع ثنايا الرواية وهي علامة: حب الوطن، فتتناثر معانيها وأجزاؤها كثيرًا في سردية الرواية، فنجد من متعلقاتها في الرواية: الوطن، المملكة العربية السعودية، الكعبة المشرفة، المدن السعودية كمدينة الرياض، ومكة المكرمة، وجدة، والمدن الحديثة المتطورة كمدينة نيوم وغيرها، المنطقة الشرقية، الربع الخالي، البحر الأحمر، الأجهزة الأمنية والعسكرية السعودية، وزارة الداخلية السعودية، وغيرها. كذلك نجد علامات فرعية للعلامة الجامعة (حب الوطن السعودي) كمعاني الحنين والشوق والتضحية للوطن والفداء والاعتزاز وغيرها، وهي علامات ترجع للعلامة الجامعة رجوع الفرع إلى الأصل.
والمؤول المباشر يُعنى بدراسة العلامة الجامعة ومتعلقاتها في المستوى الذي يقترحه معناها المعجمي البدئي، فعلى مستوى المؤول المباشر نجد أن العلامة الجامعة: حب الوطن، ومتعلقاتها: الوطن، المملكة العربية السعودية وغيرها، تتكرر كثيرًا في سردية الرواية، وهي تدور حول معاني الوطنية والتعلق بالوطن المملكة العربية السعودية، وحبه والحنين إليه، وهذا الأخير غرض مشهور في الأدب العربي شعره ونثره منذ القدم. هذا الوطن الكبير الذي يشغل مساحة شاسعة في جنوب غرب قارة آسيا حاويًا أقدس البقاع الجغرافية في هذه المعمورة: مكة والمدينة. كما أن عنوان الرواية «عودة الشر» ينتمي لسلسلة روايات أدبية أصدرها الكاتب عنوانها «سلسلة سعوديات» وهذا العنوان لهذه السلسلة يمثّل عتبة أولى للتأويل تحيلنا إلى معاني العلامة الجامعة ومتعلقاتها، كحب الوطن والانتماء له والفخر به وبمنجزاته وتطوره العلمي والصناعي والتقني، فعنوان هذه السلسلة بادئ ذي بدء يحيلنا إلى هذه المعاني الوطنية.
إن الحقيل باستخدامه وتوظيفه للعلامة الجامعة حب الوطن وعلاماتها الفرعية ومتعلقاتها المختلفة يشكّل بها معنًى بدئيًا ومؤولًا مباشرًا في هذه الرواية، تدور حول حب الوطن وطلب الرفعة له والفخر بمنجزاته ومقدساته وأصالته.
أما مستوى المؤول الدينامي في التأويل السيميائي فهو يُؤسَّس دائمًا على أنقاض المؤول المباشر في المنهج السيميائي، ولا يمكن أن يوجد إلا من خلال وجوده، فما إن يتخلَّص منه حتى ينطلق نحو آفاق جديدة تضع الدلالة داخل سيرورة التأويل. وتمثّل هذه السيرورة سلسلة من الإحالات من دلالة إلى أخرى، لا يوقفها إلا المؤول النهائي.
وعلى مستوى المؤول الدينامي نجد أن الحقيل يُنشئ سردية أدبية تربطها علامة جامعة هي حب الوطن المملكة العربية السعودية، بداية من عتبة عنوان السلسلة «سلسلة سعوديات» وحتى نهاية الرواية. وعند إمعان النظر في العلامة الجامعة ومتعلقاتها نجد أن استخدامها في هذه الرواية يحيلنا - في هذا المستوى من التأويل – على عدد من الأبعاد التأويلية المختلفة، فهناك البعد الشعوري النفسي الذي تمثله عاطفة جياشة بحب الوطن عند الكاتب، ورغبة مُلحّة في الفخر به والتغنّي بمنجزاته، وهذا يحيلنا بدوره على قيم مثل الوفاء والفداء تجاه هذا الوطن، ورغبة للتضحية من أجله، والحنين إليه عند مغادرته، وهي عواطف تجعل البعد الشعوري النفسي يتجلّى واضحًا أمامنا، من ذلك قول الحقيل: «ليقفز الإمبراطور «غور» مذهولًا، وهو يشاهد هالة ضوئية تُصدر قوة إشعاعية غير بشرية ولا فضائية تتدفّق صعودًا من موقع داخل أراضي المملكة العربية السعودية ممثلًا مركز الكون، ولأول مرة يحدّق في أجهزة الرصد والتتبّع أمامه، بينما قائد الفرسان ارتبك قليلًا، وكأنه على علم بما يحدث .. على علمٍ تام». كذلك يتجلى هذا البعد الشعوري العاطفي النفسي في التضحيات الكبرى التي يقدمها المقدّم سامي والشاب فارس وهشام والعديد من شخصيات هذه الرواية لوطنهم ولبلدهم وعن طيب نفس وبنفس راضية مطمئنة واثقة من صحة ما تبذله من جهود وتضحيات في النفس والمال والجهد وما تدفعه من أثمان، يقول الحقيل: «بينما كان فارس في هذه الأثناء، ولأول مرة في حياته، وكأن الطفل داخله قد استيقظ، فبدا مرتبكًا، وسطعت دمعتان وسط مُقلتيه، وهو يحترق شوقًا إلى والده، ذلك البطل الأسطوري الذي نما على ذكرى بطولاته وتضحيته لوطنه».
هذا الحديث وتناول هذه العلامات والمتعلقات بهذه السردية هي من أكثر مواضع تجلّي البعد الشعوري العاطفي النفسي الذي يحمل حب الوطن والفخر به والرغبة في التضحية من أجله في هذه الرواية.
هناك أبعاد أخرى مختلفة تظهر في رواية «عودة الشر»، منها البعد الإيديولوجي الذي يظهر في التغني بالعروبة وبالإسلام ومقدساته وبالجزيرة العربية والسعودية الدولة والكيان، والفخر والفخار بهذا العنصر البشري (السعودي) العربي والمسلم، وأيضًا العزة والفخر بمقدسات هذا البلد الإسلامية وكذلك مدنه المتطورة مثل نيوم ومدن البحر الأحمر، وثقل هذه البلاد على مستوى العالم وقوة تأثيرها في هذا العالم وما وصلت إليه من حداثة بالغة التقدّم والتطور في العلم والتقنية والاتصالات والأمن السيبراني والإنجازات العالمية وليس آخرها استضافة كأس العالم عام 2034م، يقول الحقيل في عودة الشر: «انهالت الاتصالات الدولية على مكتب أمين اللجنة العليا السعودية، أملًا في تزويدهم بأي معلومات حول تلك القوة البحرية الغامضة، بينما خاض رئيس وأعضاء اللجنة العليا من قادة وكبار العلماء نقاشًا استمر ساعات، أثمر عن تحليل كافة التفسيرات، ومراجعة أنماط الطاقة التي سبق وتعامل السعوديون معها، ومراجعة كافة بيانات مهامّ فارس، دون أن يجدوا طاقة مشابهة سبق التعامل معها؛ ممّا جعل رئيس اللجنة يقول: يبدو أن هناك طرفًا جيدًا سيدخل في هذه المعادلة، ليس في صفّ الغزاة الفضائيين، ثم التفّ بثقة إلى محدثيه قائلًا: سننتصر بإذن الله، وسنحمي العالم مُجدّدًا... ولم يُثَنِّ عبارته..». نلحظ من ذلك الإحالة على معنًى مفاده دور المملكة القيادي وثقلها وقوة التأثير التي تمتلكه في العالم. ويقول أيضًا: «... جاوبه أحد معاونيه - معاونو المسؤول الصيني - : ألم يحذركم السعوديون بعدم الاقتراب من تلك المركبات الميكروسكوبية في الوقت الحالي؟ وهم لديهم خططهم ويحتجزون الإمبراطور غور، قائد أولئك الفضائيين». وعند تتبع الأبعاد التأويلية الأخرى يتجلى لنا البعد الأنطولوجي الوجودي، في الانتماء لهذه الأرض، والأرض هي التراب، والتراب أحد عناصر التكوين والوجود الأربعة في الفلسفة (الماء والتراب والهواء والنار)، وعلاقة الإنسان بالأرض متجذرة، وبداية خلقه ووجوده كإنسان هو من تراب هذه الأرض، وأيضًا عودته إليها بعد الموت. فالأرض تُعد أظهر تجلٍّ للبعد الأنطولوجي الوجودي، وعلاقة الإنسان بهذه الأرض هي علاقة وجود وتكوين ودفء، وكذلك الإنسان السعودي علاقته بأرض بلاده علاقة وجودية متجذرة في أعماق التكوين، خاصة إذا عرفنا أن الجزيرة العربية هي أقدم موطن للبشر على هذا الكون، فهذا يزيد تجلي هذا البعد – الوجودي – في نفوس أبناء هذه البلاد، وفي هذه الرواية ونصوصها السردية. هذه المعاني والتجليات للبعد الأنطولوجي الوجودي تحيلنا على شعور كبير من الفخر والاعتزاز يسكن المواطن السعودي الذي يعبّر بلسانه الحقيل في هذه الرواية، يقول الحقيل: « ... قائد الفرسان: سيدي الإمبراطور، قالها وهو يعطي أوامره لتعديل مسار الموكب الفضائي ليبتعد عن مكة المكرمة، جاعلًا الكعبة المشرفة عن يساره، ومنطلقًا صوب مدينة الرياض مرة أخرى. ثم يكمل حديثه: نعم سيدي .. نحن كنا نمرّ قرب نقطة مركز الكون، وليس مركز الأرض ، كما يسميها بعض سكان الأرض».
وعندما نتجه لمستوى التأويل النهائي فهو مستوى تأويلي غير مستقل عن حركة المؤول الدينامي، إلا أنه يمثّل قوة مضادة تكبح جماح هذا المؤول وتقترح على الذات المؤولة خانة تأويلية تستقر عندها هذه السيرورة الدلالية التأويلية، وتمنحها الراحة والاطمئنان، وهو الشكل النهائي الذي تستقر عنده الدلالة. وقد لحظنا كيف سار الحقيل في روايته «عودة الشر» في سردية جعل فيها العلامة الجامعة (حب الوطن) ومتعلقاتها المختلفة تؤدي العديد من الوظائف والأبعاد التأويلية التي أبرزها:
أولًا: البعد الشعوري النفسي بما يحمله من عواطف نفسية ومشاعر متقدة تجاه الوطن تحمل المحبة والعشق للوطن والامتنان له والحنين لترابه والشغف والاعتزاز بمنجزاته ورغبة التضحية من أجله، فتجلى بذلك هذا البعد الشعوري كثيرًا في هذه الرواية.
ثانيًا: البعد الإيديولوجي، وذلك من خلال توظيف العلامة الجامعة ومتعلقاتها وعلاماتها الفرعية في هذه الرواية في الفخر والاعتزاز بكيان المملكة العربية السعودية وبجغرافيتها ومساحتها الشاسعة وحضارتها القديمة وكونها موطن البشرية منذ القدم وكذلك موطن العرب فهي جزيرة العرب التي درج العرب منها وتوزعوا فاتحين في العهد الإسلامي، الإسلام الذي أضاء هُداه من هذه البلاد، فهي وطن، وموطن العرب، ومهد الإسلام، وبعد ذلك هي السعودية البلد الأمين المتطور الذي لا تنكسر همة شعبه، يقول الحقيل مُظهرًا هذا البعد بشكل واضح: «وكما قالها قادتنا - حفظهم الله - : همة السعوديين مثل جبل طويق ولن تنكسر».
ثالثًا: البعد الأنطولوجي الوجودي، الذي نتبينه من خلال العلاقة الخاصة التي تربط الإنسان بالأرض عبر التاريخ وكون هذه الأرض وهذا التراب هو المكوّن الأول للإنسان عندما خلقه الله من تراب أول مرة، فهو من تراب وسيعود إليه، وكذلك الإنسان السعودي علاقته بأرض بلاده علاقة وجودية التكوين، ناهيك أن بلاده الجزيرة العربية هي أقدم مواطن البشر على هذا الكون، فهو يفخر بالانتماء لهذه الأرض، فهي وطنه ومنبته، وهي منشأ البشر منذ القدم ومنبت العرب ومُبتدأ نور الإسلام.
أيضًا تتجلى في الرواية هنا وهناك أبعاد مختلفة لا يتسع المجال للمرور عليها في هذه القراءة، كالأبعاد المعرفية المختلفة في ثنايا الرواية والأبعاد التأثيرية الإقناعية والأبعاد الاجتماعية والأبعاد الجمالية المختلفة التي تتضح في لغة الكاتب وأسلوبه وجمله وسياقاته وتصويراته وتشبيهاته وغيرها.
وهكذا مررنا بعجالة بقراءة منهجية سيميائية تأويلية تحليلية لرواية «عودة الشر» التي هي من أدب الخيال العلمي، وإن كان للمنهج السيميائي العديد من التفصيلات والعمق والإيغال وكثير من التأويل والنتائج، لكن هذا ما استطعنا المرور عليه في هذه المقالة، ولا نشك في أن أدب الخيال العلمي عمومًا يحمل العديد من المعاني والمقاصد والدلالات، ويخفي تحت نصوصه كثيراً من التأويل العميق الذي يحتاج إلى الدراسة والاهتمام والبحث المستمر.
** **
- د. ساير الشمري