في زاويةٍ نائمة من هذا الكون، حيث لا تصل يدُ العلم، ولا تصفُ العينُ اليقين، هناك، يولد الأدب الغرائبي والعجائبي.
ليس أدبًا يُقرأ فحسب، بل يُرتشف كجرعة من الليل، يُلامس الروح ويترك على جلد القارئ أثرًا لا يُمحى.
هو الفنّ الذي لا يمشي على أرضٍ، بل يطير. لا يسكن البيوت، بل يسكن الأحلام.
هو اللحظة التي تفتح فيها كتابًا، فتجد أن الباب الذي أمامك ليس فهرسًا، بل بوابة… إلى «هناك».
في هذا النوع من الأدب، لا نبحث عن المنطق، بل عن الانبهار.
لا نطلب الحقيقة، بل نلاحق السراب، ونصدّق أنه ماء.
ليس هروبًا من الواقع، بل غوصٌ في أعمق طبقاته، حيث تقبع الأشياء التي نخاف أن نعترف بها.
هنا، الشجرة تتكلم، والظلُّ يتنفس، والموتى يعودون بمواعيدٍ غامضة.
هنا، لا تُقرأ الرواية، بل تستدرجك، وتدخلك في لعبةٍ لا تُشبه شيئًا إلا... الجنون الجميل.
ومن بين أصابع الأدب العربي، تمدّ يدًا خفية، يدٌ تُمسك بالغياب وتكتبه، تلك يد أسامة المسلم.
كاتبٌ لا يصنع رواية، بل يبني ممالك. لا يخلق شخصيات، بل يبعث أرواحًا.
يكتب كأن بينه وبين الظلام ميثاقًا، وكأن الجنّ هم أول من قرأ مسوّداته.
في «خوف»، لا تقرأ الخوف، بل تخاف.
وفي «وهج البنفسج»، لا ترى اللون، بل تحترق به.
كل عنوانٍ لديه، هو طلاسم، وكل جملةٍ، تعويذة.
كأن الحروف عنده تُصهر أولاً في غياهبٍ لا يعرفها إلا هو، ثم تُسكب على الورق بدمٍ بارد.
أسامة المسلم، ليس كاتب رعب، بل ناسك في معبد الأسطورة.
يمشي بين صفحات التاريخ الشعبي، وينبش في حكايات الجدّات، ويصنع منها جسرًا بين الأمس والمجهول.
هو من أعاد الجنّ إلى المكتبة، ومنح العفاريت أسماء جديدة، ومن جعل الكائنات الهامسة تتكلم علنًا.
لكن لنسأل ببراءة مرعوبة: لماذا نحب هذا الأدب؟
لماذا نركض نحو الغرابة، كما تركض الفراشة نحو النار؟
ربما لأننا، في أعماقنا، نعرف أن العالم ليس كما يبدو.
نعرف أن بين جدران البيت شيئًا آخر، وأن للريح صوتًا نسيه الجميع.
نعرف أن هناك قصصًا لم تُكتب بعد، لكنها تهمس لنا كل ليلة.
الأدب الغرائبي هو ما يحدث حين ترفض الحكاية أن تكون واقعية.
هو حين تقول اللغة: كفى وضوحًا.. لنجرّب الغموض.
هو حين تصبح الحقيقة مملة، فنلجأ إلى الماوراء.
هو المرآة المقلوبة التي نرى فيها وجهنا الحقيقي.
في السعودية، حيث الصحراء تحتضن أسرار آلاف السنين، وحيث تُروى في المجالس قصص عن ناقةٍ مسحورة، أو كهفٍ لا يغادره العائدون، وُلدت بيئة خصبة لهذا الأدب.
بيئةٌ تعرف أن الأسطورة ليست كذبة، بل ذاكرة قديمة بصيغة شعرية.
وأسامة المسلم فهم هذا النبض، واستخرجه، وكتبه، وصدّره إلى القارئ بشغف من يسرد حكايةً يعرف أنها حقيقية، حتى لو أنكرها الجميع.
الأدب العجائبي، في شكله الحديث، ليس تقليدًا للفانتازيا الغربية، بل هو عودة إلى تراثنا بأدوات عصرية.
هو استحضارٌ للغائب، وتكريمٌ للامرئي.
هو مساحة نمارس فيها طقوس الدهشة، ونجرّب أن نكون كائنات جديدة.
هو أدب لا يكتفي بأن يقول «حدث ذات مرة»، بل يصرخ: «وما زال يحدث، كل يوم.. خلف هذا الباب، في هذا الحلم، في هذه الرواية».
نحن لا نقرأ هذا الأدب لنهرب، بل لنعود.
لنعود إلى أنفسنا، إلى أسئلتنا الأولى: من نحن؟ من يراقبنا؟ لماذا نخاف حين ينطفئ النور؟
وفي الغرائبي، نجد أن الإجابة ليست دائمًا منطقية، لكنها دائمًا... صادقة.
هذا الأدب لا ينافس الواقعي، بل يكمّله.
لا يهدّد الرواية الجادة، بل يعطيها بُعدًا آخر، بُعدًا يُكتب بالحبر، ويُترجم بالحلم.
وفي النهاية، كل من دخل إلى عالم المسلم، خرج منه مختلفًا.
ربما أكثر خوفًا، ربما أكثر شكًا، ربما أكثر تصديقًا للعجائب.
لكنه بالتأكيد، خرج وهو يعرف أن الكتب ليست أوراقًا، بل بوابات.
وأن الأدب الغرائبي ليس نوعًا من الكتابة، بل طقسٌ من الحياة.
** **
- خلود القاضي