«من وحي الامتداد الثَّقافيّ الرَّفيع الّذي يَسري في دمي من تراث أمّي الشَّركسية، من جبال أبخازيا وأسطورة النّارتيين، أكتب عن أساطير الشّراكسة».
من حكايات الجَدّة قرب الموقد في ليالي الشّتاء الباردة يخرجُ التّاريخ والجغرافيا والأحداث والشَّخصيّات ويمتزج الواقع بالأسطورة، ويتكوّن عالمٌ سحريّ ثريّ.. هاهو الخيالُ يحملُ الطّفلَ في رحلة عبر الزّمن فيظنّ نفسه ذاك البطل الأسطوريّ الّذي تحدّثه عنه جدّته، والفتاة تحلمُ، وهي تسندُ خدّيها بيديها وتحدّق بوجه جدّتها، بذلك البطل الّذي سيأتي يومًا على حصانه الأبيض فيصنعُ المعجزات.. كلّ هذا يحصل في أجواء حميمية، لكنّ الأطفالَ لا يخرجون بعد هذه الجلسة بالحُلم فقط، بل يحملون معهم زادًا من القِيَم والمبادئ وحتى القضايا الّتي أرادت الجدّة إيصالها في هذه الأمسية الشّتائية الجميلة.
الغرائبية والعجائبية في الأدب الشَّركسيّ: من اللّافت أن كثيرًا من سمات الأدب الغرائبي في الثَّقافة العربية، خاصّة في سرديّاتها الشَّعبية، تجد ما يقابلها أو يوازيها في المَوروث الشّركسيّ، خصوصًا في «الملحمة النّارتيّة» الّتي تُعدُّ من أعظم الأساطير البطوليّة في القوقاز.
وتتميّز هذه المَلحمة بوفرة عناصر القَصّ العجائبيّ؛ كالأبطال الخارقين، والكائنات المتحوّلة، والقوى السّحريّة، والأسلحة الخارقة، والاستعانة بالحيوانات، والرّحلات إلى عوالم غيبيّة، مع ميزة التركيز على دور المرأة في هذه القصص وامتلاكها قوى سحريّة، ما يجعلها نموذجًا سرديًّا للتّمازج بين الواقع والميتافيزيقا.
وقد احتفظ الأدب الشَّركسيّ، لا سيّما في رواياته الشّفهيّة بنبرة غرائبيّة عالية تشكّلت من الطّبيعة الجبليّة، والموروث الرّوحيّ العميق، والتَّصوّرات البطوليّة للوجود. هذه العناصر تنتقلُ عبر الأجيال لا كحكايات للتَّسلية، بل كبنية رمزيّة للهُويّة، ومقاومة للنّسيان.
ملاحم نارت الشَّركسيّة
المَلْحَمَة النَّارتيّة: تُعدُّ حجر الزَّاوية في الأدب الشّركسيّ، وهي سلسلة من الأساطير التي تروي مغامرات «أبطال النّارت»، وهي شخصيّات خارقة تعيش في عالم يختلطُ فيه البشر بالآلهة والكائنات السّحريّة، والقارئ لهذه الملاحم يدرك أن هنالك (أرضيّة ما) مشتركة بين هذه الملاحم وبين أساطير وملاحم وثقافات شعوب الشّرق القديم الّتي مهّدت لسبيل ظهور الدّيانات السّماوية، ويرى أيضًا آلهة مشتركة مع شعوب مختلفة وبأسماء مختلفة، ولا غرابة في هذا، إذ إنَّ الحضارات تأخذ مِن بعضها بحكم اتّصالها ببعضها.
هذه الحكايات تحمل بُعدًا رمزيًّا عميقًا، يمزج بين قيم الشّجاعة والعدالة، وبين الخيال الكوني، كما تتميّز اللّغة بالرمزية والصور الكثيفة حتى في اللّغة الشّفهية إذ تظهر صور مجازيّة كثيفة تتجاوز الواقع، مثل «قوس قزح كجسر إلى عالم الأبطال»، أو «عيون الأبطال التي تُشعل الحروب».
تداخل الأسطورة مع الهُويّة في الأدب الشّركسيّ ليس مجرّد ترفٍ خياليّ، بل أداة لصونِ الهُويّة، خاصة بعد التَّهجير القَسريّ والتّشريد الّذي عاشه الشّركس، فالأسطورة هنا تخلق عالمًا بديلًا يعوّض الفقد والشَّتات.
سَوْسروقُة (البطل النّارْتي ابن سَتَناي)
البطل الأُسطوري: (سوسروقة: ابن الرّاعي) ويماثل كلّ الأبطال الأسطوريين مثل: جلجامش، اليكومي.. إلخ، وهو الشَّخصيّة المركزيّة في أساطير نارْتْ.
سَوسروقة: وُلد من حجر، وهذه الولادة تسبغ عليه منذ البداية مسحة ملحميّة وتمنحه صفة الدّيمومة والخلود، وفوق كل هذا، يتدخل (لبش) إله الحديد في الأمر فيصبح بمثابة (قاطع صرّته) وحاميه، ما يمهّد أذهاننا ويزيد من التأكيد على أن هذا الوليد سيغدو بطلًا خارقًا.
تحمل أُمّ الشّراكسة (سَتَناي) مِنَ الرَّاعي الّذي التقت به قرب النَّهر أو داخل الماء فولد البطل (سوسروقة)، ولما كانَ «مجلس النَّارْتيين» لا يستقبلُ إلّا مَن كان معروفًا بماضيه وبطولاته، كان على سَوسروقة أن يصنعَ البطولات ويُثبت جدارته بالانضمام إلى هذا المجلس الّذي يحلمُ به والّذي سعت والدته (سَتَناي) «سيّدة النّارْتيين وأبهى السّيّدات وحافظة العادات والتّقاليد ومصدر هذه العادات ومشرق كلّ الطّيبات» إلى ضمّه إلى المجلس، رغم حداثة سنّه وطراوة عُوده وإهابه الغض، فكان على قدر المسؤولية.
والحيلةُ سلاحٌ يستخدمُه البطل حين لا تُجدي القوة الجسديّة، لذا نرى (سَوْسرُوقة) يستخدم هذا السّلاح في كثير من المواقع، فها هو ذا يحتالُ لِسَرِقةِ نارٍ مِن عِملاقٍ نائمٍ فيؤكّد على بطولتيه الجسديّة والفكريّة معًا فيؤكّد على أهمية وجوده بين قومه:
«وهناك أقسم النّارْتيون
أن لا يذهبوا أبدًا إلى أي مكان
دون أن يكون سوسروقة معهم»
كان درس جلب النّار درسًا مهمًّا للنّارْتيين للاحتفاظ ببَطَلِهم سَوسروقة، كما كان درسًا لقّنه الفارس الشّجاع للتّخلّص من الغرور:
«قاتلَ الله الغرور والعجب، فإنّهما يؤدّيان بالمرء إلى ركوب المخاطر الّتي لا مُوجب لها ويفقدانه التوازن والاعتدال، فيحفر قبره بيده»
وهكذا أعاد (سوسرقوا) ما سُرِقَ لأهل القرية فأثبت أنه «أعتى الفرسان وأشدّهم فتكًا»، وأثبت أنّه «أقوى مِن الرّجال وأشجع مِن الأبطال»، كما أثبت أنّه كريم الأخلاق لأنه كان عندما يخرج للغزو «لا يعود يومًا خالي الوفاض، بل كان يأتي بالمكاسب الكثيرة فيوزّعها على الفقراء والمحتاجين فأصبح فارسهم المحبوب» مما جعله «معقد الآمال»، ومثالًا رائعًا للبطولة الشّركسيّة المعطاءة.
كان النَّصر النّارْتْي نصرًا نبيلًا هادفًا إلى الحقيقة والعدالة والخير، ففي نهاية كل أسطورة، ينتصر الخير ويزول الشّر، وهذه النّهايات «دليل على صفاء قلوب الشّعب ونقاء أرواحهم» ودليل على التزام القوم أخلاقيًّا بالعطاء حين يستحقّ المُعطى ما يُعطى.
رفع «سَوسرقوا» نخب النّارْتيّين في مجلس النّارْتيين ممثّلّا قدح «البطولة النّارْتية»، وعلى عادة النارْتيين: على شارب القَدَح أن يقول كلمة في المناسبة، وهذا ما حدث مع سوسرقوا الّذي رفع نخبه وقال بلغة النّارْتيين القدماء كلمة شرح فيها أهداف بطولاته وشجاعته الصّابّة في مصلحة النّارْتيين والمقدّمة مصلحة النّارْتيين على المصلحة الذّاتية:
«إنّني أرفع هذا النَّخب
من أجل أن يبقى كلام النّارْتيين مَصُونًا
وتبقى ضرباتهم صائبة
وتبقى شوكتهم أبدَ الدَّهر»
ألقى سوسروقة كلمته وشرب قدحه الثّالث مِن دون خوف مِن سُكرٍ أو ضياع.
أراد سَوسرقوة أن يُثبت أنه جدير بأقداح البطولة النّارْتية وأنّه جدير بأن يكون فارس الأُمّة وحامي حماها، فكان وبقي - رغم مصرعه - حيًّا تحت الأرض «يحاول العودة إلى هذا العالم الواسع، يبذل جهدًا للعودة إلى الأرض ليطردَ منها الأشرار والآثمين».
الفروسية المنتظرة.. كما تنتظر الشّعوب رموزها ينهضون عائدين، ينتظر النّارْتيون عودة فارسهم يحمل معه الخير.
في العصر الحديث أعاد بعض كتّابِ الشّراكسة كتابة الملاحم الشّركسية، ومنهم (ناظم قاسم قاردن)، في كتابه (نارْتْ سَوْسروقه) والّذي أضاف بأسلوبه الرّاقي وخياله الواسع إلى خيال الأسطورة خيالات جديدة، يقرّب القارئ مِن القوم، إذ يصفُ البطولات الّتي يقوم بها البطل الرئيس لهذه الأساطير: «سَوسروقة»، محقّقًا بذلك هدفه في تقديم غريب الأحداث فيما يشبه «الأوديسا»، مضيفًا إلى مكتبة الأساطير مؤلَّفًا «فيه من غرائب الأحداث ما لم يُكتب مثله بالعربيّة فيما سبق من المؤلّفات، وفيه من عجائب الأفعال الخارقة ما يلذّ للقارئ ويُغريه بطلب المزيد ليخلو إلى نفسِه فيهوم في دنيا الخيال»، مشيرًا إلى أسلوب «البَهرجة» الّذي اتّبعه، مريدًا نقل القارئ المعتاد على نوع معيّن من القصص إلى نوع جديد يحمل «المتعة والبهجة» لإخراج القارئ مِن «دوّامته» وإبعاده عن «طاحونة مشاكله اليوميّة»، مَيْلًا به إلى «شاطئ فيه سلام وطمأنينة»، فيحلّق في دنيا الخيال، ويهوم مع أساطير الأقدمين، فتهدأ أعصابه الثّائرة أبدًا، ويتناسى مشاكله، وترتاح نفسه، ويشعر بسعادة وهناء».
**__**__**__**__**__**
المصادر والمراجع:
- د. إيمان بقاعي، (الوطن في أدب الشّراكسة «الأَدِيغهْ» العربيّ والمعرَّب)، بيروت، دار النّخبة، 2014
- ناظم قاسم قاردن، من الأساطير الشّركسية (نارْتْ سوسروقه)، عمّان: الجمعية الخيريّة الشّركسية، 1977.
- برزج سمكوغ، (ضياع الاغتراب)، ثلاثية، دمشق، ط1، 1998.
- زهرة عمر أبشاشه، (الخروج من سوسروقه)، رواية الشَّتات الشّركسي، عمّان: أزمنة للنّشر والتوزيع، 1993]
** **
غريد الشّيخ محمد - كاتبة لبنانية، معجميّة، ناشرة