منذ أن وعى الإنسان وجوده، لم يرضَ بأن يبقى أسير الحواس، ولا مكتفياً بما تمليه عليه حدود الواقع. كان يحلم، ويتخيّل، ويبتكر عوالم أخرى تكسر جدران الممكن، وتعبر به إلى حيث تندمج الحقيقة بالأسطورة، ويصير الخيال أداة لفهم الذات والعالم.
في هذا الفضاء المترامي بين الإدراك والمجهول، نشأ الأدب العجائبي والفانتازي، لا بوصفه ترفاً سرديًا أو لعبة خيالية، بل كحاجةٍ أصيلة لابتكار معنى آخر للحياة، ولفهم الوجود عبر الحكاية.
وإذا كانت الفانتازيا قد تبلورت مصطلحًا نقديًا في الفكر الغربي الحديث، فإن جذورها أقدم من كل تصنيف، وتضرب عميقًا في وجدان الشعوب، وفي مقدمتها المخيلة العربية التي أنجبت قصصًا عجائبية خالدة قبل أن تعرف الكلمة اسمها المعاصر.
وفي التجربة السعودية تحديدًا، كان للأدب العجائبي مسارٌ خاص، تشكل على تخوم التراث الشعبي، ونما عبر تحولات سردية معاصرة، حتى بات اليوم واحدًا من أبرز ملامح تجديد المشهد الأدبي المحلي.
وفي الأدب السعودي، برزت ملامح هذا الجنس الأدبي عبر تحولات ثقافية ومقاربات سردية خاصة استلهمت التراث وأعادت تأويله بلغة العصر.
الأدب العجائبي في الثقافة العربية ليس ظاهرة طارئة، بل يمتد إلى عصور مبكرة؛ حيث نجد في قصص ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة بن شداد، وسيرة سيف بن ذي يزن، أمثلة على الخروج من الواقع المألوف إلى فضاءات عجائبية تحتفي بالتحول، والسحر، والمفاجآت.
كذلك شكّل نص حي ابن يقظان لابن الطفيل نموذجًا مبكرًا لوعي عجائبي فلسفي يستكشف حدود الوجود الإنساني عبر تجربة عقلية فريدة.
بهذا المعنى، لا يمكن القول إن الفانتازيا حكرٌ على الأدب الغربي، بل هي جزء أصيل من المخيلة العربية التي رأت في الحكاية وسيلة لاكتشاف العالم وإعادة تخيّله.
في السياق الغربي، بدأ تبلور مصطلح الفانتازيا بوصفه جنسًا أدبيًا مميزًا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، خاصة عبر الأدب القوطي والروايات السوداوية التي استكشفت الرعب والخارق والمستحيل.
لاحقًا، رسّخ كتّاب مثل تولكين (مؤلف سيد الخواتم)، ولويس كارول (أليس في بلاد العجائب)، وكليف ستابلز لويس (سجلات نارنيا)، مكانة الفانتازيا بوصفها مجالاً إبداعيًا متكاملاً، يجمع بين بناء العوالم (Worldbuilding) واستلهام الأساطير وتجسيد الصراعات الوجودية الكبرى.
في بدايات الحركة الأدبية السعودية (منتصف القرن العشرين)، طغت الواقعية الاجتماعية على النتاج السردي، فانصبّ الاهتمام على قضايا بناء الدولة، والهوية، والتحولات الاجتماعية.
كانت النصوص تلاحق الواقع أكثر مما تهرب منه، لذلك ظل الأدب العجائبي هامشيًا، ومحاولاته محدودة إن وجدت.
باستثناء تجربة فريدة وجريئة حينئذٍ في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، حين ظهر المبدع عبدالكريم الجهيمان (1912-2011) بوصفه أحد أبرز الأصوات الأدبية التي وثقت الحكاية الشعبية السعودية.
جمع الجهيمان مئات الروايات الشفهية والأساطير المحلية في عمله الضخم «أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب»، والذي صدر في عدة مجلدات.
قدّم الجهيمان عبر هذه الحكايات عالمًا زاخرًا بالمخلوقات العجيبة، والكائنات الغرائبية، والأحداث الخارقة للطبيعة التي كانت تتداولها المجتمعات البدوية والريفية، حيث يظهر الجن والسحر والتحولات الخيالية.
كانت الحكايات تحمل قيمًا تعليمية مغلفة بأطر عجائبية، بحيث لم تعد الفانتازيا مجرد استيراد ثقافي لاحق، بل نابعة من واقع شعبي محلي غني وخلاق.
شكّلت أعمال الجهيمان أرضية خصبة للكتّاب السعوديين الذين جاءوا لاحقًا، ممن سعوا إلى إعادة قراءة التراث الشعبي، أو نسج سرديات غرائبية جديدة، إما بإعادة تدوير الموروث أو بمزجه بالأساليب الحديثة.
ومن أبرز الكتّاب المتأخرين الذين اقتربوا من هذا العالم:
- رجاء عالم في طوق الحمام: حيث يتداخل الواقعي بالغرائبي في مشهدية مكية ساحرة، ونالت عليها جائزة البوكر العالمية بنسختها العربية.
- منذر قباني في فرسان وكهنة: خلق عالمًا موازيًا، وحقيقة وجود الطبيب مراد قطز وانتقاله إلى العالم الآخر، واعتُبرت الرواية اختراقًا جديدًا في هذا النوع الأدبي.
- إبراهيم مفتاح في أم الصبيان: مزج بين الواقعية والأسطورة الشعبية، مستندًا إلى معتقدات تراثية كانت شائعة في المجتمع، خصوصًا في جنوب السعودية (جزيرة فرسان تحديدًا).
- عواض شاهر العصيمي في المنهوبة: من خلال تأنسن الأشياء، مثل العصا التي تُهدى وكأن لها دلالة روحية، أو الطيور التي تحمل بعدًا وجدانيًا عميقًا، مما شكّل تداخلاً بين الجماد/الحيوان والإنسان، وهي سمة من سمات العالم العجائبي.
كما بدأ جيل جديد من الكتَّاب السعوديين باستلهام الفانتازيا الصريحة، إما بتوظيف الأسطورة المحلية (مثل عوالم الجن والأساطير الصحراوية)، أو ببناء عوالم خيالية بالكامل مستلهمة من التقاليد العالمية بروح محلية.
كثير من النصوص العجائبية الحديثة تحاول إعادة طرح أسئلة الذات، والانتماء، والمعنى، عبر إعادة توظيف الأساطير الشعبية والسرديات التقليدية في نصوص حداثية.
واستثمار العجائبية كوسيلة للتعبير عن الغربة النفسية، والاضطراب الاجتماعي، والأمل بالمستقبل، ومحاولة خلق فضاءات سردية متكاملة تتجاوز الواقع المحلي، وتخترق فضاءات الخيال المفتوحة.
رغم التشابه في الآليات السردية (كسر قوانين الطبيعة - خلق شخصيات خارقة - الصراع بين قوى الخير والشر)، إلا أن الفانتازيا السعودية تظل أكثر ارتباطًا بالهمّ الاجتماعي والهوياتي، مقابل الطابع الملحمي الأسطوري للفانتازيا الغربية.
تتميز الفانتازيا السعودية غالبًا بأنها تدمج الواقعي بالغرائبي بذكاء، دون أن تنفصل تمامًا عن البنية اليومية لحياة القراء.
برأيي، الفانتازيا ليست ترفًا سرديًا، بل هي تمرد جمالي على القوالب الجامدة للواقع.
يشكّل الأدب العجائبي والفانتازي اليوم في التجربة الأدبية السعودية مجالاً واعدًا، يفتح الباب أمام تخييل المستقبل، وإعادة استكشاف التراث، وصياغة أسئلة الوجود بلغة فنية جديدة.
وقد حققت روايات مثل (حوجن) للكاتب إبراهيم عباس أرقام مبيعات عالية وتم تحويلها مؤخرًا إلى فيلم سينمائي، وكذلك روايات الكاتب الأشهر أسامة المسلم التي حطمت مبيعاتها أرقامًا قياسية على مستوى العالم العربي، وأشهرها رواية (خوف).
إن الأدب العجائبي والفانتازي في السعودية اليوم لم يعد مجرد ظاهرة عابرة أو نزوة تخييلية معزولة، بل صار تعبيرًا عن رغبة جيل كامل في إعادة تشكيل العالم والسرد بلغة جديدة، تتجاوز حدود التقليد وتغامر في مساحات الخيال الرحبة.
وبينما تتجه أنظار القرّاء والكتَّاب الشباب نحو هذا الأفق الإبداعي الواسع، يبدو المستقبل واعدًا بتحولات سردية جريئة، تستلهم التراث ولا تتقيد به، وتحلم بالمستقبل دون أن تغفل عن أسئلة الهوية والوجود.
في ظل هذا الحراك، يغدو الأدب العجائبي والفانتازي ليس مجرد جنس أدبي إضافي، بل ركيزة من ركائز المخيلة الثقافية السعودية الجديدة، وعلامةً على اتساع الأفق، وتجدُّد الحلم.
** **
- أحمد السماري