الثقافية - علي القحطاني:
ضمن اهتمامها بالأطروحات النقدية الحديثة حول الفنتازيا وتجليات العجائبي في السرديات الشعرية، أجرت «الثقافية» لقاءً مع الدكتورة أمل العتيبي، التي تناولت في أطروحتها للدكتوراه موضوع «العجائبي في السرد الشعري الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين»، أوضحت العتيبي أن توظيفها للمنهجين الإنشائي والسيميائي أسهم في تفكيك بنية النصوص الشعرية وكشف خصوصيات العجائبي فيها، مؤكدة أن العجائبي ساعد في تجديد بنية القصيدة العربية، شكلًا ومضمونًا، من خلال استثمار السرد الحكائي والتخييل الرمزي الذي يكسر المألوف ويستدعي الدهشة.
حول الفروق بين التجربتين المشرقية والمغاربية، بيّنت أن التباين لم يكن جوهريًا، بل تمثّل في الحضور المكثّف للعجائبي لدى بعض الشعراء دون غيرهم، واختلاف طرق توظيفه كأسلوب فني للتجريب والتجديد، وخالفت العتيبي في أطروحتها مقولة تزفيتان تودوروف القائلة باستحالة العجائبي في الشعر، مشيرة إلى أن التجربة الشعرية العربية المعاصرة أثبتت عكس ذلك، بما تمتلكه من خصوصية ثقافية وفنية تنسجم مع طبيعة التخييل الشعري وتستثمر العجائبي بوصفه بنية جمالية دلالية.
وفي معرض حديثها عن شعراء الحداثة، أشارت إلى أن أسماء بارزة مثل أدونيس، ومحمود درويش، وغازي القصيبي، نجحوا في توظيف العجائبي كوسيلة رمزية لتجاوز القيود الواقعية، والتعبير عن همومهم السياسية والاجتماعية بأساليب فنية مواربة.
وفي ختام اللقاء، شددت د. أمل العتيبي لـ»الثقافية «على أهمية تعميق البحث في تمظهرات العجائبي داخل السرديات الحديثة، داعية إلى دراسات جديدة تستكشف علاقته بالسرديات النسوية والرقمية، كجزء من تطور أدوات التعبير الأدبي المعاصر.
الإنشائية والنص السردي
* اعتمدتم المنهج الإنشائي مع الإفادة من المنهج السيميائي في تحليل النصوص الشعرية. إلى أي مدى ساعدكم هذا التوظيف المنهجي في الكشف عن خصوصية العجائبي في السرد الشعري؟
تعود الإفادة من المنهج الإنشائي إلى أن الإنشائية تنظر في النص السردي من زاويتين؛ الأولى بوصفه مجموعة من العناصر (أحداث – شخصيات - إطار مكاني -إطار زماني) اصطلح عليها اسم الحكاية، والأخرى بوصفه تنضيدًا لتلك العناصر على نحو مخصوص يختلف باختلاف أعوان السرد والرؤية. وحيث إن مدونة الدراسة تعتمد على السرد الشعري الحكائي؛ فإن الإفادة من هذا المنهج تبدو مناسبة وجليّة.
أما السيميائية؛ فلأنها تشمل وصف كل التجارب الذهنية، والدلائل الطبيعية، وتبحث عن المعنى، ومسار الدلالة، وهذا ما يتناسب مع مدونة الدراسة وأهدافها، ناهيك عن أن المنهج السيمائي يُعد الأنسب؛ لأنه يعتمد على توظيف الإشارات اللغوية المكتوب بها النص الشعري ويتعامل مع البنية الداخلية المكونة من الثلاثية الدال والمدلول والدلالة، وهو ما تهتم به الدراسة للكشف عن التجليات والوظائف والدلالات.
ويمكنني اختصار ذلك بالقول إن العجائبي يشترط السرد الحكائي وهو ما يجعل الإنشائية الأقرب له ، كما يتطلب العجائبي في الشعر إلى فك الرموز العجائبية ودلالتها وإشاراتها وهو ما يقدمه التحليل السيمائي للنص ويتضافر المنهجان في تقديم ذلك.
مصادر العجائبي في الشعر
* في كتابكم، تحدثتم عن مصادر العجائبي في الشعر: الديني، والتراثي، والثقافي، والطبيعي. هل لاحظتم تفوق مصدر على آخر من حيث التأثير في بناء العجائبي؟
الحقيقة أن مصادر العجائبي متنوعة ولم يطغَ مصدر على غيره لأن الحد الفاصل كان في قدرة الشاعر على تعجيب النص الشعري وإسباغ الصفات العجائبية غير المنطقية وغير المألوفة عليه ، فاستخدام أي مصدر منها لم يكن بهدف سرد الحكاية أو استخدام الرمز أو الأسطورة كما وردت في مصادرها شعريًا؛ إذ تختلف القصص العجائبية في السرد الشعري العجائبي اختلافًا جوهريًا مع ما ورد في أصولها المرجعية، لكن الشعراء عمدوا إلى استثمار دلالتها فوق الطبيعية وسردها في نصوصهم وفق رؤيتهم الفنية، ووفق معطيات عصرهم، فجاءت أصيلة مبتكرة مضمَّخة بعطر العجائبي الذي يبهر ويذهل القارئ؛ حتى يحلّق في سماء النص دهشة وإثارة. وقد كان العالم الشبحي قاسمًا مشتركًا لأغلب النصوص العجائبية.
تجديد بنية القصيدة
* برأيكم، كيف ساهم العجائبي في تجديد بنية القصيدة العربية الحديثة على مستوى الشكل والمضمون معًا؟
استدعاء السرد العجائبي في النصوص الشعرية يسهم في تجديد الأساليب الشعرية من جهة ، ويتيح للشعراء ارتياد آفاق التجريب بالتفاعل بين السرد العجائبي والشعر من جهة أخرى ؛ إذ إن السرد الشعري العجائبي هو حكاية ذات طابع تخيلي، عمادها الأحداث والشخصيات والمكان والزمان، وهي حكاية تشف عن معنيين ظاهر حرفي، وآخر خفي دلالي. فالسرد العجائبي الشعري لا يعتمد على كلمة، وإنما يشكل صورة سردية تسهم في إنتاج الصور الشعرية الموسعة؛ إذ هي ترتقي بالمألوف إلى مرتبة الشعر، ومن هنا يبتكر العجائبي تقنية يحيي بها النص بعيداً عن المطروق والمألوف ويخلق كوناً نصياً جديداً لم يعتده المتلقي مما يثير فضوله الفني . فضلاً عن أن العجائبي يشترط السرد الذي يعد في النص الشعري تجديداً يعلي من قيمة النص ويزيده ثراء وحيوية وفاعلية وحضوره في الشعر يمثل حداثة الشعر العربي.
تجليات العجائبي بين الشرق والغرب
* ركزتم في مدونتكم البحثية على شعراء من بلدان عربية مختلفة. هل لاحظتم فروقًا في تجليات العجائبي بين التجربة المشرقية والتجربة المغاربية؟
لم يكن هناك فرق بين التجربتين إلا من جهة الكشف عن الشعراء المولعين بالعجائبي في الوطن العربي في المنتصف الثاني من القرن العشرين، أمثال محمد عفيفي مطر، وخليل حاوي، ومحمد الثبيتي، وقاسم حداد، ومحمد فريد أبو سعدة، وصلاح فائق، وغيرهم؛ إذ يغلب العجائبي على أغلب إنتاجهم الشعري، بعكس البعض الآخر الذي يرد العجائبي في شعره بصورة نادرة. ويمكن أن يكون هذا الكشف بابًا للدراسات المتعمقة في العجائبي عند هؤلاء الشعراء، وكيف مكنتهم العجائبية من التجديد والتجريب في السرد الشعري العربي الحديث، وأثر ذلك في الأجيال التي تبعتهم من الشعراء المعاصرين.
التصالح مع النص
* تودوروف أقر باستحالة العجائبي في الشعر، وأنتم خالفتموه في ذلك. هل يمكن القول إن العجائبي العربي يمتلك خصوصية ثقافية تجعله متصالحًا مع النص الشعري بعكس النموذج الغربي؟
الحقيقة أن دراستي انطلقت من مساءلة المقولة الغربية لتودروف وهو أشهر منظري العجائبي المتمثلة في إقصاء العجائبي ونفيه عن الشعر، وإثباته في السرد فقط. وقد تبين بعد رصد تجليات العجائبي في السرد الشعري الحديث والكشف عن مصادره، ووظائفه، ودلالاته على عينة من دواوين الشعراء في المنتصف الثاني من القرن العشرين، أن الشعر السردي يوفر للعجائبي شروط التخييل التي يتطلبها ومن خلال استقراء قصائد المدونة، تبيّن توافر عناصر التخييل في السرد الشعري الحديث، من استعمال الأفعال في أزمنة مبهمة ولا نهائية، وعدم الإحالة المباشرة على التاريخ الحقيقي والواقعي. فالشخصيات والأماكن كائنات متخيلة من إبداع الشاعر، ناهيك عن اجتماع الأمكنة والأزمنة المتباينة، وتوافر الحبكة الدرامية التي تتولد من تدرج الأحداث العجائبية، والانقطاع العجائبي فضلًا عن ارتباط هذا التخييل العجائبي بالتبيئر الداخلي الكاشف لذهن الشخصيات، والخارجي الذي يمتنع فيه عن ذكر سمات داخلية لها، وأخيًرا الدلالة التي تنتج عن الخرق العجائبي، وكل هذه العناصر مجتمعة قد هيّأت للعجائبي التجلي في السرد الشعري بشكل يثبت صحة فرضية الدراسة.
ولا شك أن النظريات الغربية تنبثق من أرضية وثقافة ومجتمع يختلف جذريًا عن الثقافة والمجتمع العربي؛ مما يجعل التقيد بمعاييرها وفرضها على الأدب العربي تعسفًا ونسفًا للهوية والثقافة العربية. فالأديب العربي - لا شك - أفاد من الثقافة الغربية، وافتتن بها واطلع عليها، لكن ذلك لا يعني الانسلاخ من هويته، فتأثره كان تأثرًا واعيًا أصيلًا؛ إذ أفاد من الآخر ولم يضع ملامحه.
العجائبي في السرد الشعري
* إلى أي حد استطاع شعراء الحداثة في العالم العربي، مثل أدونيس ومحمود درويش وغازي القصيبي، أن يوظفوا العجائبي كوسيلة فنية لتجاوز الواقع السياسي والاجتماعي؟
من الوظائف التي يؤديها العجائبي في السرد الشعري التعبير عن المسكوت عنه، وبرز ذلك في ثلاثة جوانب مهمة هي المسكوت عنه الديني، ثم السياسي، وأخيرًا الاجتماعي. وقد حاول الشعراء الاحتماء بالعجائبي؛ لبث همومهم ومعاناتهم والتعبير عنها خلف قناع يحميهم من تبعات قولهم؛ إيثارًا لسلامتهم. مستثمرين قدرة العجائبي في تجاوز المألوف، والانفلات من الواقع؛ للتعبير عن رؤيتهم وفلسفتهم الخاصة حول الوجود وقضايا الإنسان، وعن تياراتهم الفكرية والثقافية. ناهيك عن أن الخطاب العجائبي من أنجع الخطابات في التعالق مع الواقع وكشفه؛ ولعل ذلك ما يجعله خطابًا مثيرًا لدهشة ومتعة المتلقي. وقد كان العجائبي الإرعابي تحديداً وسيلتهم للتعبير عن الهموم السياسية والقضايا الوطنية من تصوير لفداحة الظلم، ورداءة العيش، وفقدان الأمان، وغياب العدل، وسطوة الظالمين. ويمكن إجمال ما عمد إليه الشعراء في السرد الشعري العجائبي بالسخرية من المعايير السائدة، والتمرد عليها، وتقديم النماذج المشوهة والمغامرة والطموحة التي تشبع ترقب المتلقي الذي يتوق للخروج من المألوف والتقاليد العامة.
السرديات الرقمية الحديثة
* بعد إنجاز هذه الأطروحة العلمية عن « العجائبي في السرد الشعري الحديث» ، ما الآفاق البحثية التي تتطلعون لاستكمالها؟ وهل ترون أن هناك حاجة لدراسات جديدة تربط بين العجائبي والسرديات النسوية أو السرديات الرقمية الحديثة؟
أتطلع إلى استكمال الدراسات التي تؤصل وتؤسس جماليات العجائبي في السرد الشعري العربي الحديث، والكشف عن تجلياتها ووظائفها، ومصادرها، ودلالاتها. خاصة أن دراستي وقفت على مدونة كبيرة تحتاج مزيداً من البحث والكشف والتأمل وهذا يشمل السرديات بأنواعها في العصر الحديث.
ثم إن تمظهر العجائبي في السرد الشعري الحديث لا يعني عكسه في الشعر العربي القديم، ولعل البحث الأدبي بحاجة إلى دراسات متعمقة في الشعر العربي القديم؛ لمعرفة مدى تجلي العجائبي فيه، خاصة أن الدراسات الأدبية لم تلتفت إلى هذا اللون في الشعر القديم، عدا دراسات قليلة تناولت تمظهر الجن فقط.