يتجلّى قلق الإنسان إزاء المجهول، وهروبه الدائم من مأساة الوجود نحو اللامعقول، في أشكال فنية وسردية متعددة، كالأساطير وحكايات العجائب والغرائب، التي نراها في جل الحضارات البشرية، عبر كل الأزمان.
في ثقافتنا العربية، مثلا، سجل حافل من الأشكال الأدبية المتعمّقة، بإبداع لا مثيل له، في متاهات الخيال والأسطورة، حيث تشكّل هذا الأدب في رحم الحكاية الشعبية الشفهية، والملاحم التاريخية، والرؤى الفلسفية الدينية. ويكفي أن نستحضر «ألف ليلة وليلة»، بما تحمله من عوالم سحرية، ومخلوقات خارقة، ووقائع تمور بالممكن والمحال، لنُدرك أن المخيلة البشرية كانت ولا تزال تُلحّ في اختراق آفاق المخيف، والبعيد، والغامض، بغرض الاستمتاع الفكري بهذا التحدي، أو تطويع عناصره لخدمة الخير والحكمة، أو بغرض توصيف وفهم الواقع بأساليبه غير المألوفة.
تنطوي كتابات الفنتازيا والعجائبيات على ثراء ثقافي ولغوي فاخر، ورمزيات معقدة عميقة، وتقدّم فسيفساء غنية من الموضوعات الإنسانية العالمية، تنطلق في مجملها من المفارقات الوجودية الكبرى، كالخير والشر، العشق والكراهية، الثبات والتحوّل، والواقع والمجهول.
أما ترجمة هذا النوع من الأدب، فهي من أكثر مجالات الترجمة حساسية وإبداعًا، إذ تتطلّب موازنة دقيقة بين الوفاء للنص الأصلي والتكييف الخلّاق، الذي يلامس وجدان المتلقي، ويبقيه متحمسًا ومتأثرًا بالنص الذي بين يديه. ولأن بعض هذه النصوص الأدبية تمثّل نافذة على الخيال الإنساني الفريد لدى فئة خاصة من البشر، أو شعب معيّن، أو ثقافة معيّنة، وتكون مخزنًا لرموزها، وأساطيرها، وأحلامها، تصبح ترجمتها مسؤولية أدبية وثقافية بالغة الأهمية والحساسية، يواجه معها المترجم تحديات جمّة، أولها الخصوصية الثقافية العالية، إذ تحتوي على أسماء، ومخلوقات، وشعائر، ومكوّنات رمزية خيالية، لا نظير لها في الثقافة المستهدفة، ما يتطلّب وعيًا عالميًا عاليًا، وخيالًا خصبًا.
ومن التحديات أيضًا الإيقاع الموسيقي والتراكيب الشعرية، التي يصعب الحفاظ عليها في اللغة المنقولة، والرمزيات الماورائية والدينية المعقدة، التي تتطلّب قراءة تأويلية دقيقة قبل الترجمة. كما لا يمكن إغفال التحدي المرتبط بجمهور القرّاء، ومدى تقبّلهم للأساليب التي اختارها المترجم.
ومع ذلك، ولأن اللغة في نصوص الفانتازيا والحكايات الخيالية تمتاز بالطابع الشاعري والرمزي، مع كثافة التكرار، والإيقاع، والتراكيب المتناغمة، تصبح ترجمتها فرصة مميزة للمترجم الحاذق، لاستعراض ثقافته ووعيه ومهاراته المتقدمة في تطويع اللغة والتحكم ببعض مفاتيحها. كما أن هذه النصوص، رغم خصوصيتها وتعقيدها، تلامس قيمًا وأحاسيس إنسانية مشتركة، مثل الحب، والخوف، والشجاعة، والدهشة، ما يحقّق لناقلها بين ثقافتين/ لغتين حلمه السامي في ترك «الأثر»؛ حين يمدّ خيوطا وجدانية ومعرفية مضيئة بين أبناء الثقافات المختلفة، ويصنع لشعوبها تلك المرآة السحرية التي تنفذ بهم إلى كل عجيب وممتع ومدهش.
** **
د.فادية الشهري - دكتوراه دراسات الترجمة والتبادل الثقافي