الثقافية - علي القحطاني:
في ظل تنامي الاهتمام بالأدب العجائبي وتحولاته في المشهد العربي، أجرت «الثقافية» لقاء مع الدكتور لؤي خليل، أستاذ السرديات والدراسات الثقافية بجامعة قطر، والمتخصص في الأدب والنقد، وصاحب الكتاب «العجائبي والسرد العربي: النظرية بين التلقي والنص، ويعد الدكتور لؤي خليل من أهم الأصوات النقدية التي تناولت ظاهرة العجائبي في السرد العربي، من خلال مقاربة تجمع بين تراث الثقافة العربية والنظريات النقدية الحديثة.
في هذا الحوار، استعرض د. خليل جذور العجائبي في الأدب العربي، وأوضح نقاط التقاطع والاختلاف بينه وبين التنظيرات الغربية، متوقفا عند دور الخيال في تشييد الرموز، وتحولات الزمان والمكان في بناء العوالم السردية العجيبة، كما تحدث عن الخصوصية الثقافية التي منحت الأدب العجائبي طابعا أصيلا متجذرا في الهوية العربية الإسلامية، بعيدا عن كونه مجرد تكرار لمفاهيم وافدة.
وتطرق كذلك إلى آفاق تجديد هذا اللون السردي في ظل التحديات الراهنة، وما يتيحه من إمكانات تعبيرية تتجاوز الرقابة التقليدية، عبر رمزية مدهشة تعبر عن قضايا المجتمع والسياسة بلغة فنية مواربة.
تودوروف والتلازم العجائبي
* ما الخصائص المشتركة بين السرد العجائبي في الأدب العربي والأدب الغربي؟
يقوم التلازم بين العجائبي -كما نظر له تودوروف- ونصوص التراث الإسلامي على وقوع كل منهما على حافة الحقيقة، بين الممكن والمستحيل، أو بين الحقيقي وغير الحقيقي؛ ففي العجائبي ثمة حيرة أمام الحدث الخارق، بين تفسيره بما يلائم نظم الحقيقة الواقعية، أو تفسيره بما يخالفها. وفي نصوص التراث الإسلامي يبقى الحدث الخارق واقعا بين (الممكن)، على اعتبار أنه لا يعجز القدرة الإلهية، وبين (المستحيل) الذي يجعله خيالا فحسب، لعدم وجود برهان يلزم وقوعه على الحقيقة. ويبدو ذلك واضحا في احتواء النصوص على الجن والملائكة، واختراق السماوات، والمشي على الماء، والطيران في الهواء.
فيجد مفهوم العجائبي حضوره في نصوص السرد العربي القديم والمعاصر من خلال تمثيله لمعظم اشتراطات المفهوم كما نظر لها النقد الغربي، التي تتمثل في: التردد والحيرة التي يشعر بها القارئ -وأحيانا الشخصية- أمام حدث يبدو خارقا للطبيعة، فلا يعرف هل يفسره وفق قوانين الواقع المألوفة أم بقوانين جديدة، واعتبار عالم شخصيات النص عالم أشخاص أحياء، والثاني أنه قد يكون التردد محسوسا من قبل شخصية داخل النص، كما هو محسوس من قبل المتلقي، والأخير ضرورة استبعاد القراءة الرمزية أو الشعرية للنص العجائبي. مع ضرورة التنبيه إلى أن الركنين الأول والأخير ضروريان وملزمان، أما الركن الثاني فركن احتمالي.
أدب المنامات والكرامات
* كيف يمكن للأنواع الأدبية مثل «المقامة» و»الحكاية» أن تقدم مثالا على تأثير العجائبي في الأدب العربي؟
لا يتعلق العجائبي بنصوص المقامات المشهورة مثل مقامات الهمذاني ومقامات الحريري؛ ذلك أن التعجيب في هذه النصوص ليس تعجيبا على الحقيقة؛ فمعظم العناصر التي تبدو عجيبة في المقامات يمكن تفسيرها آخر النص بقوانين الواقع نفسها دون تغيير؛ مما ينقلها إلى فضاء (الغريب)، لا العجيب ولا العجائبي؛ وعلى ذلك فإن الحضور الأمثل للعجائبي يظهر في النصوص اللامركزية، كأدب المعراج المنسوب إلى عدد من المتصوفة الأدباء، والكرامات والمناقب والمنامات، وكذلك في النصوص الشعبية مثل السير الشعبية، وألف ليلة وليلة، ومئة ليلة وليلة، وكثير من نصوص الرحلات.
الخيال والحواس البصرية
* كيف يمكن تفسير دور «الخيال» في تجسيد الرموز العجائبية في الأدب العربي؟
إذا كان العجائبي يقوم على حضور عناصر عجيبة داخل النص تفارق مألوف الواقع، ويحتار المتلقي -أو شخصية داخل النص- في تفسيرها بين نظم واقعية ونظم غير واقعية، فإن هذا التصور يحيل على مرجعية خيالية واضحة؛ ذلك أن عناصر التعجيب التي تظهر في النص مصدرها الخيال، فعناصر النص -أي نص- تقوم على زاويتين أو منظورين: منظور الحواس البصرية، وما تلم به من الواقع المحيط، ومنظور ما وراء الحواس، وما يبنيه من فضاءات أو تخييلات تستثمر الحواس في تشكيلها. والعجائبي لا يستطيع الحضور بغير خيال؛ لأن منظور الحواس لا يفارق الواقع ولا يشكل صدمة للمتلقي، بعكس منظور الخيال؛ فعلى سبيل المثال تعرف حاسة البصر البساط الذي نمشي أو نجلس عليه، كما تعرف وتدرك الطائر الذي يطير في السماء، ولكن الخيال هو الذي استثمر هاتين الرؤيتين لتشكيل البساط السحري الطائر! فمع أن البساط السحري الطائر لم يكن ليتشكل من غير حاسة البصر، فإنه في الآن نفسه صنيعة الخيال؛ لأن البساط السحري غير موجود على الحقيقة وإن تشكل من عناصر حقيقية. وعلى ذلك لا يمكن بحال من الأحوال وجود نص عجائبي من غير خيال.
الحضارة العربية والمنامات
* هل يتبع الأدب العربي التقليدي القواعد الغربية لفهم الأدب العجائبي، أم أن له معايير خاصة؟
لابد من الإشارة ابتداء إلى أن النظريات والمناهج النقدية التي تنشأ في ثقافة ما إنما تعكس وجهة نظر هذه الثقافة تجاه الكون وتجاه النصوص التي في محيطها، ولذلك فإن هذه المناهج والنظريات تحمل في داخلها تحيزا واضحا للجماعة الثقافية التي أنتجتها، ومن المهم التعامل بحذر مع هذه المناهج حتى لا يؤثر تحيزها أثناء العمل في نصوص تأتي من خارج الجماعة الثقافية التي أنتجت تلك النظريات.
ففي سياق نظرية العجائبي يضع تودوروف لتحققه مجموعة من الاشتراطات مبنية على نصوص درسها في ثقافته، ولكن عندما نطبق تلك الشروط على نصوص تنتمي إلى الحضارة العربية الإسلامية، نلاحظ أن هناك عدم اتساق بين النصوص العجائبية في الحضارة الإسلامية وبعض اشتراطات تودوروف، مع أن هذه النصوص تمثل العجائبي على نحو واضح؛ فمن ذلك أن تودوروف اشترط ألا يقع النص ضمن (الأحلام) حتى يقبل ضمن العجائبي؛ والسبب الذي دفعه إلى ذلك أن الحلم أو المنام في الثقافة الغربية لا يقع ضمن الحقيقة، ولذلك لا يشكل تهديدا لنظم الواقع، غير أن ذلك لا يستقيم في الحضارة العربية الإسلامية؛ فالمنامات في الإسلام ليست كلها خارجة عن الحقيقة، بل إن منها ما يدخل في صميم الواقع نفسه، وقد جاء القرآن الكريم بأمثلة كثيرة عن هذه المنامات والرؤى (سورة يوسف41-49، وسورة الصافات102-107). فخوف تودوروف من زوال واقعية الأحداث، في حال تبني التفسير بالمنام، خوف لا مسوغ له في نصوص الحضارة العربية الإسلامية، بسبب المكانة الخاصة للمنامات داخل الحضارة الإسلامية، وبسبب طبيعة مفهوم الحقيقة داخل الإسلام.
السرد العجائبي ومفاهيم الزمن
* كيف تتجلى العلاقة بين السرد العجائبي ومفاهيم الزمن والمكان في الأدب العربي؟
يقوم العجائبي في بنيته الأساسية على خرق قواعد الواقع كما نعرفه؛ فينتهك القوانين الفيزيائية التي تحكم سير الزمن وتحدد طبيعة المكان ويتلاعب بها؛ فليس للزمان في العجائبي خطية زمنية متسلسلة وذات اتجاه واحد ومنطقي؛ بل يخضع لمجموعة من المسارات غير المنطقية وغير التراتبية التي لا يحركها إلا هدف النص، بعيدا عن قواعد الزمن المألوفة خارج النص، والأمر نفسه بالقياس إلى المكان، فليس له صفات ثابتة أو حتى تاريخية.
ويتجلى التلاعب بالزمان والمكان في صور متعددة، ولأغراض متنوعة، فقد يسير النص في مسارين زمنيين متوازيين، وقد تعود الشخصيات إلى الزمن الماضي، وقد تسافر إلى المستقبل، وقد يتغير المكان ويكتسب أكثر من صفة في آن واحد؛ فيبدو دائريا وحادا، مسطحا ومحدبا، قد ينكسر وينصلح في آن واحد. وقد يستخدم التلاعب في الزمان والمكان لبناء عوالم بديلة مكتملة بقوانينها الجغرافية والزمنية الخاصة المختلفة جذريا عن عالمنا، كوجود تضاريس مستحيلة أو أعمار مديدة للكائنات، كما يمكن أن يخدم تشويه الإدراك الحسي للزمان والمكان أغراضا جمالية أو نفسية، كخلق شعور بالارتباك والحيرة لدى القارئ، عبر دوائر زمنية متكررة أو أمكنة تتغير هيئتها على نحو غير منطقي، أو للتعبير عن حالات الشخصيات الداخلية المضطربة. علاوة على ذلك، قد يحمل الزمان والمكان المشوهان دلالات رمزية عميقة، فيصبح المكان الغريب رمزا للضياع النفسي أو الاجتماعي، أو قد يرمز الزمن المتوقف للجمود والعجز، بينما يثير السفر عبر الزمن أسئلة فلسفية حول القدر والحرية ومعنى التاريخ.
ويمكن أن يلاحظ ذلك في كثير من نصوص السرد العربي التراثي؛ ففي نص (أرض الحقيقة) عند ابن عربي ينتقل الرحالة (العارج) إلى (أرض السمسمة)، وهي أرض لا تخضع أمكنتها إلى قوانين المكان كما نعرفه، فأنهارها من حصى وحجارة، وسفنها تتشكل من الأغصان حين يرغب المسافر بقطع الأنهار. وفي نص (بحيرة الجن) عند الغرناطي يظهر جن من عصر نبي الله سليمان عليه السلام ليحتكوا بشخصيات من العصر الأندلسي (موسى بن نصير) ومثل ذلك كثير في النصوص التراثية.
تودوروف ومخطوطة عربية في العجائب
* هل يعد العجائبي جزءا أساسيا من الهوية الأدبية العربية، أم أنه مجرد تأثير خارجي مستورد من ثقافات أخرى؟
العجائبي نوع أصيل في السرد العربي، ويمكن القول باطمئنان إن أصل وجود العجائبي هو النص العربي، وقد أشار تودوروف صراحة في كتابه (مدخل إلى الأدب العجائبي) إلى أن الذي دفعه إلى التفكير في وضع قواعد لهذا النوع من الأدب نص عثر عليه في إسبانيا/ الأندلس، ولم يعرف له اسما فسماه (المخطوطة التي عثر عليها في سرقسطة)، وفضاء المخطوطة كله يقع في الحضارة العربية الإسلامية، وشخصياته عربية وبأسماء عربية.
ويبدو هذا التصور منطقيا وطبيعيا بالقياس إلى حجم النصوص العربية في السرد العربي التراثي التي تمثل هذا النوع الأدبي، وعلى رأسها نص (ألف ليلة وليلة) الذي كان له تأثير كبير على مستوى العالم، والأهم من ذلك كله أن بنية الهوية العربية الإسلامية تساعد على ترسيخ هذا النوع من الأدب؛ فمن صميم الهوية العربية الإسلامية الإيمان بالغيبيات (الملائكة والجن)، وهذه عناصر يؤمن المسلم أنها موجودة على الحقيقة ضمن عوالم موازية لعالمه، أو على نحو من الوجود يوازي وجوده ويعيش معه؛ أي أنه في صميم هويته يؤمن بوجود عناصر تخرق قوانين العالم الذي يعرفه، ومع ذلك لا تقع خارج دائرة الحقيقة، وهذا هو مبدأ العجائبي تماما.
أدب الفنتازيا وحريات التعبير
* كيف يمنح الأدب العربي العجائبي الكاتب مساحة للتعبير توازي المساحة التي يمنحها الأدب الواقعي؟
لا يختلف الأدب العجائبي عن غيره من أنواع الأدب الأخرى في قدرته على تمثيل التغيرات التي تطرأ على المجمعات الإنسانية أو على الأفراد، فهذا أصل بنيوي جوهري في طبيعة الأدب مهما كان نوعه؛ غير أن الأدب العجائبي يتميز عن غيره بقدرته على الدخول في مساحات لا يستطيع الأدب الواقعي الدخول إليها؛ فوقوع أحداثه بين الممكن والمستحيل، بين الوقعي والخيال، يجعل منه مساحة مفتوحة للخوض في الممنوعات السياسية والمنطقية والاجتماعية بعيدا عن أعين الرقباء، ذلك أن الرقيب غير معني بالأحداث التي تجري خارج حدود الواقع الذي يهتم به، من جهة الزمان ومن جهة المكان ومن جهة طبيعة الأحداث نفسها، ولذلك يحوز الأديب الذي يعمل على النص العجائبي حرية أكبر في التعبير عما يريده، وقد بدا ذلك واضحا في نصوص سردية تراثية وأخرى معاصرة؛ مثل نص (حي بن يقظان) لابن طفيل ونص (كيمياء السعادة) لابن عربي، من التراث العربي، فكلاهما تطرق لموضوع العلاقة بين النقل والعقل دون أن يتعرض لسخط النقاد، وكذلك الأمر في العصر الحديث في رواية (التجليات) للغيطاني ورواية (فرانكشتاين في بغداد) لأحمد سعداوي، فكلاهما قدم رؤية سياسية لواقعه ضمن فضاء عجائبي.
التحديات الثقافية المعاصرة
* كيف يمكن للكتاب العرب المعاصرين إعادة تفسير أو تحديث أساليب السرد العجائبي في ظل التحديات الأدبية والفكرية المعاصرة؟
إن تحديث السرد العجائبي العربي المعاصر عملية تفاعلية تتطلب شجاعة تجريبية، وعمقا فكريا، وجذورا ثقافية واعية، فلا يتعلق الأمر بابتكار حكايات غريبة، أو بتقنيات جديدة فحسب، بل بجعل هذه الغرابة وتلك التقنية قادرة على التعبير عن الواقع المعقد والمتغير، وعن أسئلته ومخاوفه وأحلامه، على نحو يستطيع القبض على تلابيب المتلقي وأسره جماليا ومعرفيا؛ فيمكن للكتاب العرب تجديد أساليب السرد العجائبي من خلال استلهام تراثهم الأدبي الغني (كالحكايات الشعبية والموروثات الأسطورية والرحلات المتخيلة) وإعادة صياغتها بوعي يتفاعل مع التحديات الفكرية والراهنة، من خلال تفكيكها ومنحها دلالات نفسية واجتماعية وسياسية جديدة، وكذلك تحويل العناصر التراثية العجيبة الثرية؛ (كالجن والملائكة والنسناس وباقي الكائنات العجيبة) إلى رموز تعبر عن قضاياه المعاصرة، كما هو الحال عند إبراهيم الكوني.
كما يرتبط تحديث السرد العجائبي ارتباطا وثيقا بالسياق الاجتماعي والسياسي، من خلال استثمار المنظورين الثقافي المعاصر في تصور مجتمعات اليوتوبيا (المكان الصالح بالمعنى الاجتماعي والسياسي) والديستوبيا (المكان الآثم بالمعنى الاجتماعي والسياسي)؛ فيستخدم العجائبي بعده أداة للاحتجاج غير المباشر، عبر استعارات ورموز تنتقد الاستبداد والحروب والنزوح من غير تصريح مباشر، كما هو الحال عند الغيطاني وبهاء طاهر.
وتتيح تقنيات ما بعد الحداثة السردية آفاقا واسعة لتطوير العجائبي، مثل اللعب بالزمن، وتعدد الرواة، والمحاكاة الساخرة، والميتا-سرد، وتفكيك الخطابات السائدة واليقينيات، وعكس تشظي الذاكرة والواقع، وتفتيت مركزية الحدث، وغير ذلك من تقنيات، ويتضح ذلك على نحو شديد الوضوح في القصة القصيرة العربية المعاصرة، كما هو الحال عند كل من زكريا تامر ومحمد المخزنجي.
** **
@ali_s_alq