وتتوازى هذه العلاقة العاطفية الأحادية من جانب أمل بعلاقة أحمد بالجبل وبيت والدته الذي نشأ فيه وتلك العلاقة الأحادية من جانبه تجاه المكان وساكنيه، وتحدد علاقته بأمل الجزء الأول من علاقته بالمكان، وهي علاقته بالجبل، وصراع الخروج منه، ومواجهة المجتمع خارج الجبل، لقد تكفلت هذه العلاقة بالكشف عن ذات تشكلت هويتها من خلال ذلك الجبل الذي يحمل الذكريات والعلاقات المترابطة، فهي مرحلة من مراحل الوعي بالذات، حيث جسد ارتباطه بالمكان جزءًا من هويتهما معًا، في التمسك بالمكان ومجتمعه، والصراع في التأقلم مع ألفة الخروج منه، والذي لم يكن سوى بداية المعرفة.
وتمثل شخصية (حياة) الجزء الثاني من علاقته بالمكان، فهي الانعكاس لصراعاته بين الهوية السعودية والجنسية اليمنية، وهي التي يخفي عنها المكون الأهم من شخصيته، وهي هويته الشعرية، والسبب: «كل الذين عرفوا الشعر في داخلي انتهت علاقتي بهم أو تقلصت...اخترت مع حياة ألا أكون شاعرًا»، لكنها كانت أمله الوحيد في حياة جديدة: «في الخارج كانت حياة تنتظرني كل يوم، أو كنت أنا الذي أنتظرها»؛ حيث يجد في فكرة الزواج منها مسوغًا شرعيًا ونظاميًا للإقامة بصفته زوج مواطنة بنصف جنسية:» لن أكون مقيمًا مائة في المائة، سيكون نصفي للوطن ونصفي للغربة، وهكذا سأقلل من نسبة الخسائر»، ويظل أحمد حائرًا بين خيارين بين حياة التي يخفي عنها الشعر، وبين الشعر الذي تجسده إيمان:» إن كنت سأختار حياة فيجب أن أعيش بلا إيمان»، غير أن هذا الخيار أيضًا لن يكتمل؛ لأنه في الليلة التي يقرر فيها اختيار حياة على إيمان، تسر إليه إيمان -التي تجسد مثلث الروح والقلب والجسد- في ذلك المنام بما لا يستطيع البوح به:» ليس في إمكاننا أن نعيش بلا إيمان»، وفي اليوم التالي كان أحمد يتجه إلى الحجز الخاص بمخالفي نظام الإقامة ليوجه به إلى مكتب الترحيل، وبهذا تنتهي علاقته بحياة، وقبل ذلك انتهت علاقته بأمل، فهاتان الشخصيتان تجسدان صور الانتماء للبعد المكاني، وكلاهما يكشفان عن تشكل الذات وإعادة صياغتها بناء على التفاعل مع الأنثى مفتاح الدخول والخروج من المكان، فانتهاء علاقته بأمل بانسحابها يحيل إلى انقطاع الرجعة إلى الجبل بهدمه، وفاصلة العلاقة التي يضعها بينه وبين حياة تفصح عن علاقته بجنسية المكان التي تحكمها القوانين ويلزمه الانضباط بها.
وتمثل إيمان محور الارتكاز الشعري، التي ترفض الاستكانة فتخرج من تلك العلاقة معلنة رفض المشاركة مع أخرى، فإيمان هي نظير الذات الشعرية، إذ تظهر في أهم مراحل حياته، مرحلة البروز الشعري، حيث يتعزز ارتباطها بهذه المرحلة منذ لحظة اللقاء التي تجمعهما في الأمسية الشعرية، ثم ما تلا ذلك من صدور الديوان، واحتفائهما به، وما رافق تلك الرحلة من توهج قلمه، فهي ملاذ الهروب من الواقع، هي التي تجمع بين الحب والشعر، وهو معها لا يشعر بغربته أو نبذه، فلا يهمها جنسيته ولم تسأله عنها، ولم تتغير علاقتها به بعد أن أخبرها بمأزق الهوية، لكن العلاقة لم تطل ففي اللحظة الفاصلة تنتهي علاقة الحب، التي تستمر بعد ذلك في إطار رسمي يتمثل في استقبال التعزية في والدته أو الاطمئنان السريع عليه، لكنها لا تعود أبدًا، وينحصر حضورها في البعد الروحي، وتعد شخصية إيمان وبرغم ظهورها الومضي أكثر الشخصيات تعقيدًا، فهي تجسد البعد الآخر في مسألة الهوية والانتماء وهو التكوين الشعري لأحمد، الذي يواجه بتحديات المجتمعين الأسري والثقافي، فهو يرى ذلك الفارق في الاحتفاء بالشعراء بحسب جنسياتهم، الأمر الذي يفسر له إخفاء بعضهم لجنسياتهم الحقيقية، خوفًا من هذه الفجوة، كما يرى رفض أسرته له، ورفضهم لهويته الشعرية التي ترتبط بالفجور كما يرى خالد، ويصبح مصير الشعر والحب الوأد، إذ يقذف بنسخ ديوانه المائة في الحفرة، ويشعل فيها النار منهيًا علاقته بذلك الكتاب في الصمت والعتمة، محاولًا بالتخلص منه التخلص من بعض المكونات الذاتية التي باعدت بينه وبين إخوته، وكان قد تخلص من الأنثى العالقة في حياته قبل ذلك، دون أن يعرف أيهما كان السبب في تلك المسافة بينهما :» أهي المرأة من كانت السبب في طردي أم كتابي الوحيد الذي طبعته وأنا في أوائل العشرينيات من عمري...ولا أدري الآن أكان السبب الكتاب أم المرأة؟»، لكن ابتعاده عن الكتابة لن يستمر طويلًا؛ إذ يعود إليها مجددًا بشكل آخر، وهو الشكل الذي انتهى إليه بكتابة الرواية، حيث لا يمكنه الحياة بلا كتابة، أو كما قالت له إيمان في ذلك الحلم:» ليس في إمكاننا أن نعيش بلا إيمان».
لقد مر أحمد بثلاث أزمات ذبذبت إحساسه بهويته، وساهمت في انكشاف الذات، وهي:
1 -فقدان الجنسية، والشعور بالاغتراب.
2 -الهروب من الكتابة، لأنها أهم أسباب نبذه.
3 -النزول من الجبل، ثم سقوطه.
وفي أثناء خوضه هذه الصراعات واصطدامه بالواقع ومحاولة تأمل، وفهم ذاته التي تواجه هذه الأزمات، ترافقه الأنثى التي تكشف عن كينونة مأزومة تتلمّس هويتها بين أنظمة القانون، وأصداء الشعر وندوب العلاقات الإنسانية في إطار المكان المقدس؛ إذ تعكس صورة بطل يصارع مصيره ويبحث عن صورته وسط هويات متعددة، فيصبح السرد مسرحًا للتقلّبات النفسية والتشظي الشعوري والتوق الدائم إلى انتماء غير مشروط، وفي هذا التوق تحضر الأنثى لا بوصفها كائنًا عاطفيًا؛ فحسب بل لكونها رمزاً مركزياً لإعادة تشكيل الذات، واختبار حقيقتها ومواجهة هزائمها، فكل امرأة يلتقي بها أحمد تمثل مرآة تُظهر جانبًا من وعيه، أو تكشف قناعًا جديدًا عن الذات التي توهم أنه يعرفها، وهي ترتبط مع المكان في علاقة معقدة، إذ يتحول هذا الفضاء إلى ذاكرة نابضة تتخلّق فيها اللغة من ذكريات الطفولة، وندوب الفقد ومرارات النبذ، فالجبل ليس مجرد موطنٍ أول بل هو معادل موضوعي للهوية الأولى، ومع كل خطوة يخطوها البطل بعيدًا عنه يخسر جزءًا من يقينه ويكسب أفقًا جديدًا من الأسئلة بالإضافة إلى أنه كلما تأزمت علاقاته زادت أزمة انتمائه المكاني، فيغدو الجبل مكانًا مفقودًا لا يمكن الرجوع إليه كما لا يمكن الاستقرار خارجه.
لقد تلخصت هذه الرحلة في اعتراف البطل الذي يصور فيه فداحة الألم ونشوة الاكتشاف معًا حين يقول:
«كنت أحتاج إلى حياة كهذه حتى أعرف من أنا في هذا المجتمع وإلى عزلة حتى أكتشف أشياء كثيرة لم أكن لأعرفها لو استمرت حياتي كما كانت في السابق».
** **
د.دلال بنت بندر المالكي - أديبة وأكاديمية