تتجلى صورة الدعوة إلى إلغاء النقد الأدبي في فضاء النظرية التي ينهض بها النقد الثقافي على نحو إشكالي مهم، فهل دعوة الإلغاء هي دعوة منهجية تتعلق بإلغاء الصفة المنهجية من النقد الأدبي، أم أنها دعوة إلى إلغاء مفهومي يتعلق بحضور مفهوم نقدي جديد يلغي المفهوم القديم، على الرغم من أن الدكتور الغذامي يوضح هذه الإشكالية فيما بعد ويقتصر على الإضافة وتغيير أدوات العمل وتطويرها، على النحو الذي يناسب الفكر النقدي الجديد الرامي إلى توسيع مساحة النظرية والاجراء معاً.
يصل الناقد الدكتور عبد الله الغذامي في هذا المجال - من خلال هذه المقاربة النقدية للظاهرة النقدية والخطاب النقدي الأدبي- إلى حقيقة مهمة، هي أن النقد الثقافي هو بديل للنقد الأدبي ولا يقول بالإلغاء التام للنقد الأدبي، بل هو يقوم على الآليات التي يشتغل عليها النقد الأدبي ويطورها بما يتلاءم مع المفهوم الجديد لتحليل الخطاب الأدبي، فالمنجز المنهجي الإجرائي للنقد الأدبي على صعيد التقانات والآليات هو منجز مهم وضروري، ولا يمكن للنقد الثقافي الاستغناء عنه؛ بل على العكس يعتمده بوصفه من أولى الحقائق التي يشتغل عليها على وفق رؤيته النقدية الثقافية الخاصة:
«من هنا فإننا نقول: إن النقد الثقافي لن يكون إلغاء منهجيا للنقد الأدبي، بل إنه سيعتمد اعتمادا جوهريا على المنجز المنهجي الإجرائي للنقد الأدبي.
وهذه أولى الحقائق المنهجية التي يجب القطع بها»..
وبذلك يكون النقد الثقافي قريبا من النقد الأدبي في هذا المجال المتعلق بالرؤية والمفهوم، على الرغم من أن طبيعة التوجيه النقدي في النقد الثقافي هي التي تختلف عن طبيعة التوجيه النقدي الأدبي، أي أن الدكتور الغذامي يرى أن النقد الأدبي الذي فقد شروط وجوده الضرورية على هذا النحو يمكن أن يرافق النقد الثقافي في تجديد بعض أدواته، وتحويلها من النسق الأدبي إلى النسق الثقافي في عملية تطوير وتكييف تصبح فيها بعض أدوات النقد الأدبي أدوات ثقافية فاعلة.
يقدّم الدكتور الغذامي اقتراحا بإضافة جملة ثالثة إلى الجملتين المعروفتين في الخطاب النقدي العربي وهما الجملة النحوية والجملة الأدبية، وهذه الجملة الثالثة التي يقترحها هي (الجملة الثقافية) التي تعمل على تحليل الخطاب في طبقة جديدة من طبقات النقد، وهي جملة حيوية ومؤثرة ذات تأثير أوسع وأكثر شمولاً من الجملتين السابقتين:
«اقتراح نوع ثالث من الجمل يضاف إلى الجملة النحوية والجملة الأدبية، وهي الجملة الثقافية، تساوقاً مع ما أضفناه من دلالة نسقية تختلف عن الدلالة الصريحة والدلالة الضمنية، اللتين هما من رصيد النقد الأدبي. وعبر هذه الجملة الثالثة، التي هي الثقافية، سيتم لنا التمييز بين ما هو أدبي جمالي وما هو ثقافي، وذلك على مستوى المنهج والإجراء».
يقابل هذا الاقتراح ما أضافه الناقد من دلالة ثالثة للدلالتين المعروفتين في النقد الأدبي وهما الدلالة الصريحة والدلالة الضمنية، وهذه الدلالة الثالثة هي الدلالة النسقية التي تتجلى في تحليل مفهوم النسق في الخطاب الأدبي، وبهذا يكون القارئ الثقافي قادرا على الوصول إلى فضاءات الخطاب من جانبها جميعاً، فمن خلال الجملة الثقافية والدلالة النسقية يمكن للنقد الثقافي أن يقول كلمته في تحليل الخطاب الأدبي، بشكل مغاير تماما للنقد الأدبي على نحو يقارب المنطقة المهمّشة في الخطاب، ويقوم بتحليلها خارج منطقة الانبهار بالرؤية الجمالية البلاغية التي لا تصل إلى عمق الرؤية الثقافية للأشياء.
تقوم نظرية الدكتور الغذامي في النقد الثقافي في مجال التشكيل الدلالي على إضافة دلالة ثالثة يسميها «الدلالة النسقية»، فالدلالة الأولى هي «الدلالة الصريحة» التي تتشكل في سياق التداول اللغوي، والدلالة الثانية هي «الدلالة الضمنية» التي تتشكل في سياق التداول الأدبي النقدي، وفي سياق التداول الثقافي الذي يعتمده لا بدّ من حضور دلالة ثالثة هي عنده «الدلالة النسقية» التي تجيب على أسئلة النسق في تحليل الخطاب، وهي لا تنفي وجود الدلالتين السابقتين بل على العكس من ذلك تثبت وجودهما؛ لا بل تستعين بهما من أجل العمل على تكريس رؤيتها الجديدة في ضوء أدوات النقد الثقافي:
«الدلالة الصريحة التي هي الدلالة المعهودة في التداول اللغوي العام، وفي الأدب وصل النقد إلى مفهوم الدلالة الضمنية، فيما نحن هنا نقول بنوع مختلف من الدلالة هي الدلالة النسقية، وستكون نوعاً ثالثاً يضاف إلى الدلالات تلك. والدلالة النسقية هي قيمة نحوية ونصوصية مخبوءة في المضمر النصي في الخطاب اللغوي.
ونحن نسلم بوجود الدلالتين الصريحة والضمنية وكونهما ضمن حدود الوعي المباشر، كما في الصريحة، أو الوعي النقدي، كما في الضمنية، أما الدلالة النسقية فهي في المضمر وليست في الوعي، وتحتاج إلى أدوات نقدية مدققة تأخذ مبدأ النقد الثقافي لكي تكتشفها ولكي تكتمل منظومة النظر والإجراء».
ويعرّف هذه الدلالة الجديدة باختصار مشحون بالوعي والمعرفة «هي قيمة نحوية ونصوصية مخبوءة في المضمر النصي في الخطاب اللغوي»، فهي دلالة غير ظاهرة على هذا النحو وتتعمد الاختباء خلف الدلالتين السابقتين لتقوم بدور مغاير في الأداء، بمعنى أنها تعمل «في المضمر وليست في الوعي، وتحتاج إلى أدوات نقدية مدققة تأخذ مبدأ النقد الثقافي لكي تكتشفها ولكي تكتمل منظومة النظر والإجراء»، وهذا يعني أن النقد الأدبي بأدواته التقليدية لا يمكنه أن يقوم بهذه المهمة لأنه يكتفي بالدلالتين السابقتين فقط، في حين النقد الثقافي هو من يتمكن من العمل على اكتشاف الأدوات الجديدة، التي تسهم في إكمال منظومة النظر والإجراء بوساطة الدلالة النسقية، إذ هي تعمل بالمضمر النصي الذي لا يمكن الكشف عنه بسهولة، بل يحتاج الأمر إلى طاقات كشفية مضاعفة لا يمتلكها سوى النقد الثقافي بآلياته وتقاناته العابرة للدلالة الصريحة والدلالة الضمنية، وهو ما يعمل عليه الناقد في سبيل الانتقال بالنظرية النقدية العربية من محور إلى آخر، يعد أكثر مناسبة واستجابة للعصر ومقتضياته المعرفية.
يطرح الدكتور الغذامي مفهوم الجملة الثقافية ملحقة بالدلالة النسقية التي يتجلى مفهوم الجملة الثقافية فيها، ولا بد من وجود تفاعل ضمني وأكيد بينهما للوصول إلى أعلى كفاءة ممكنة في نشاط النقد الثقافي، من أجل العبور من فوق المساحة المحدودة والمكرورة التي تركها الناقد الأدبي في منجزه الواسع والكبير، فالدكتور الغذامي يقول في هذا السياق:
«مع قيام الدلالة النسقية، معتمدة على العنصر السابع فإن الذي ستحصل عليه عبر كشفنا للدلالة النسقية أننا سنكون أمام (جملة ثقافية) مقابل ما نعهده من جمل نحوية، ذات مدلول تداولي، وجمل أدبية، ذات مدلول ضمني وبلاغي مجازٍ، ومع هذين النوعين، الجملة النحوية والجملة الأدبية، فإننا سنجد الجملة الثقافية، نوعاً ثالثاً مختلفاً، والجملة الثقافية هي حصيلة الناتج الدلالي للمعطى النسقي، وكشفها يأتي عبر العنصر النسقي».
وهذا يعطي لنظرية النقد الأدبي ممهدات نظرية واضحة وأصيلة لا تلجأ إلى الإنشاء السياقي العام للتعبير عن الأفكار، بل ثمة رؤية واضحة وأصيلة تشتبك فيها الأدوات والمصطلحات على نحو دقيق، وتعمل داخل منظومة فعّالة لإنتاج مساحات جديدة تعمل فيها العدّة المعرفية للمنهج بصورة نسقية منتِجة، ولا شك في أن الجملة الثقافية هي أوسع وأعمق من الجملتين السابقتين النحوية والأدبية، لأن الجملة النحوية تقف عند حدود التعيين النحوي لمفردات الجملة وإعرابها، والجملة الأدبية تكون منشغلة عادة بالإنتاج الجمالي الذي يمثل جوهر الفكرة الأدبية، في حين تنفتح الجملة الثقافية على الفضاء العام للخطاب في حصيلة الناتج الدلالي الكلي للمعطى النسقي، وبذلك تكون هذه الجملة هي الجملة الأهم لكنها لا يمكنها الاستغناء عن الجملتين السابقتين.
إن الجملة الثقافية التي تضاف إلى الجملة النحوية والجملة الأدبية تشكل في هذا السياق تشكيلا مثلثا يتكوّن من ثلاث جمل، يمكن لها إذا ما عملت في منظومة واحدة أن تنتقل بتحليل الخطاب الشعري من مرحلة إلى مرحلة أعلى وأكثر خصبا وإنتاجا، على طريق الكشف عن الأنساق الخفية التي لا يمكن للجملة الأولى والثانية أن تتحمل مهمة الكشف عنها، في حين تكون الجملة الثقافية هي الجملة القادرة على إضافة هذا الجهد النقدي الذي يجعل من النقد الثقافي ضرورة كبيرة.
** **
- د. رائدة العامري