الثقافية - علي القحطاني:
المترجم صانع للمعرفة، لا يقتصر دوره على نقل المعنى بين لغتين، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تشكيله ضمن منظور ثقافي مختلف، يحتفظ أحيانًا بروح الأصل، أو يتكيّف مع ذائقة المتلقي. وفي عالم يتشابك فيه التواصل بالصراع، باتت الترجمة من المحاور الجوهرية في بناء الهويات، وتوزيع المعرفة، وترسيخ القوة الناعمة عبر الثقافة.
الترجمة لم تعد مجرد وسيلة للتواصل أو الاطلاع، بل أصبحت فعلًا معرفيًا مركّبًا تتداخل فيه الأبعاد اللغوية مع الاجتماعية، والجمالية مع الثقافية.
فالكلمة المترجمة لم تعد وسيطًا لغويًا فحسب، بل حاملة لمفاهيم ورؤى قد تعمّق الفهم أو تثير الجدل، تقرّب بين العوالم أو تكشف الفروقات. وبهذا المعنى، تتجاوز الترجمة حدود النقل إلى كونها ممارسة تنويرية تتطلب وعيًا نقديًا، وتطرح تساؤلات مهمة حول الأمانة في النقل، وتأثير السياق، ودور المترجم بين مرجعية النص واحتياجات المتلقي.
في لقاء خاص مع «الثقافية»، تطرق الدكتور محمد البركاتي، أستاذ اللغويات بجامعة الملك عبدالعزيز والعضو المؤسس لجمعية الترجمة ، إلى قضايا الترجمة الراهنة، مستعرضًا ما يواجهه المترجم العربي من تحديات مهنية وثقافية، وأهمية الأسرة والتعليم في تنمية الحس اللغوي، كما ناقش تأثيرات الذكاء الاصطناعي، وإشكالية الفلاتر الثقافية، إلى جانب الجدل المتجدد حول العلاقة بين الأمانة والإبداع في ترجمة النصوص الأدبية.
صناعة المعرفة
يقال إن المترجم صانع للمعرفة»، فهل يمكن اعتبار الترجمة اليوم أحد مصادر القوة الناعمة؟ وكيف نرتقي بهذه الصناعة لتكون أداة تنوير لا مجرد نقل لغوي؟
الترجمة هي القنطرة أو الجسر التي تتم من خلاله أو عبره عملية نقل المفاهيم والخصوصيات الثقافية إلى الجانب الآخر. هذه العملية فيها كثير من الشد والجذب بين الثقافات إما لأسباب لغوية أو لأسباب اقتصادية أو جيوسياسية، فمهمة المترجم تتمثل في الجمع بين شخصين مختلفين: مؤلف النص الأصلي و قارئ النص المترجم وهو بين خيارين إما أن يأتي بالقارئ نحو الكاتب فيترك الخصوصيات الثقافية الأصلية باقية أو أن يأخذ الكاتب نحو القارئ فيقدم له طبقًا ثقافيا مصنوعًا خصيصًا له.
وقد وجدت الأبحاث في علم دراسات الترجمة والدراسات الثقافية وعلم اللغة الاجتماعي، أن الأعمال المترجمة، كالروايات والأفلام، لا تقتصر على نقل المعنى فحسب، بل تمتلك قدرة فعلية على التأثير في ثقافات الشعوب وتغييرها. وتبرز هذه التأثيرات في عدد من الجوانب:
نقل القيم والرؤى الجديدة
تتيح الترجمة الاطلاع على أنماط فكرية ومعتقدات وأيديولوجيات مختلفة عن تلك السائدة في الثقافة الهدف. فعلى سبيل المثال، قد تُعرّف الروايات المترجمة القارئ على مفاهيم متعلقة بالفردانية، أو حرية التعبير، أو أدوار الجندر، مما يُحدث تغييرًا في البنية الفكرية والاجتماعية للجمهور المتلقي.
التأثير اللغوي
تؤدي الترجمة، خاصةً في وسائط الإعلام السمعي البصري كالأفلام والمسلسلات المدبلجة أو المترجمة، إلى إدخال تراكيب وتعبيرات جديدة إلى اللغة الهدف. وقد يسفر ذلك عن تغيرات لغوية ملموسة مثل اقتراض التراكيب أو الكالك (الترجمة الحرفية للبنية)، ما ينعكس تدريجيًا على الاستخدام اللغوي العام.
التلاقح الثقافي وظهور الهُجنة الثقافية
تسهم الأعمال المترجمة في تشكيل ممارسات ثقافية هجينة نتيجة التفاعل بين القيم الأصلية والثقافات الوافدة، وهو ما يُعرف بالتلاقح الثقافي. وقد يؤدي ذلك إلى تبنّي بعض العادات أو الأعياد أو الرموز الثقافية الأجنبية في المجتمعات المحلية، كما يظهر في انتشار مناسبات مثل «عيد الحب» أو «الهالوين» في العالم العربي.
إعادة تشكيل الهوية والمعايير الاجتماعية:
تُعيد الأعمال المترجمة تشكيل تصورات الأفراد لأنفسهم ولمجتمعهم، لا سيما عندما تتناول قضايا خلافية تمس الأسرة أو الدين مما يصنع نزعة ناقدة للأعراف السائدة وتبني مواقف بديلة.
التأثير في أنماط الحياة
تقدم الأعمال المترجمة أنماط حياة جديدة تؤثر في ذوق الجمهور وتطلعاته واستهلاكه. فمثلًا، ساهمت الدراما الكورية المترجمة إلى اللغة العربية في تشكيل معايير الجمال ومفاهيم النجاح والعلاقات ا لاجتماعية في أوساط الشباب العربي.
تعليم اللغة الإنجليزية
ما الدور الذي تلعبه الأسرة والمناهج التعليمية المبكرة في تشكيل هوية المترجم منذ الطفولة؟ وهل يُعد تعليم اللغة الأجنبية في سن مبكرة عاملًا مُعززًا للغة الأم أم مهددًا لها؟
بلا شك أن الرعاية الأسرية لها دور كبير في توجيه النشء و تحفيز اهتماماتهم اللغوية والثقافية لكنها سلاح ذو حدين فالطفل الذي لا يتشبع بثقافته الأم يقف أمام خطر تثاقفي كبير فسيستقبل الثقافة الأجنبية في فراغ داخلي يجعلها تتمكن منه ومن معتقداته وتكون عاملًا قويا في خلق جيل منفصم عن ثقافته الأم.
المرجعية الثقافية
تُعد الترجمة مسؤولية وهوية تتجاوز كونها مجرد وظيفة. كيف يمكن للمترجم أن يحقق التوازن بين أمانة النقل واحترام المرجعية الثقافية للنص؟ وما المخاطر المترتبة على غياب هذا الوعي في الترجمة المعاصرة؟
الترجمة علم وتخصص يدرّس في الجامعات في المراحل الأكاديمية الثلاثة وليست ممارسة عشوائية، فيجب أن يتلقى المترجم تكوينا منهجيا معرفيا كافيا ليستطيع الموازنة بين كل المتغيرات كنوع النص وهدف النص ونوع المتلقي. المترجم الذي لا يدرك هذا العمق يخلق فوضى تسيء للمشهد اللغوي بأن يسمح بتسرّب العجمة للّغة المكتوبة أو يقدم محتوى مسخًا لا يعكس جماليات النص الأصلي.
تعقيدات الترجمة
كيف يمكن للمترجم أن يتعامل مع النصوص الأدبية شديدة التعقيد كالمقامات أو الشعر دون الإخلال بروح النص؟ وهل الإبداع في الترجمة يعد خيانة للنص الأصلي في هذه الحالة؟
هذه مسألة جدلية لم يحسمها علماء الترجمة، فهم منقسمون بين من يميل لتمجيد التغريب بأن تظهر الثقافة ومحتوى اللغة المصدر في الترجمة بوضوح وبين من يمجّد التقريب بأن يترك مساحة إبداعية للمترجم يردم فيها الهوّة بين الطرفين.
يوصّف هذا الجدل نظريات راسخة في مجال الترجمة، من أبرزها نظرية النظم المتعددة (Polysystem theory) وهي نظرية طوّرها إيتامار إيفن-زوهَر لتكون إطارًا نظريا في دراسات الترجمة والنظرية الأدبية، ترى أن الأدب المترجم قد يحتل موقعًا مركزيًا ضمن النظام الأدبي في الثقافة الهدف ويؤدي دورًا مهمًا في عملية التحديث والتغيير.
تصوّر هذه النظرية الأدب والثقافة على أنهما نظامان ديناميكيان غير متجانسين يتكوّنان من عدة نظم فرعية مترابطة (أو «نظم متعددة») كالأنواع الأدبية من شعر وقصة ورواية وغيرها، وأنماط لغوية رسمية وعامية، وتؤكد هذه النظرية على أن الأدب المترجم ليس نشاطًا هامشيًا، بل يمكن أن يؤدي دورًا محوريًا في النظام الأدبي الهدف، فتسهم في تجديد الأدب، وتؤثر في المعايير الأدبية السائدة، وتُدخل نماذج لغوية تعبيرية جديدة. أما في حال كانت الترجمة في موقع هامشي، فإنها تميل إلى الالتزام بالمعايير المحافظة، وتركز على السلاسة والتطبيع (Domestication).
الفلاتر الثقافية
هل ترون أن المترجم مسؤول عن الفلاتر الثقافية عند ترجمة الأعمال المرئية؟ وكيف يمكن الحد من تسلل القيم الدخيلة دون الوقوع في رقابة مشددة أو تحريف المعنى الأصلي؟
المترجم بلاشك مسؤول، وهو أحيانا منفّذ محكوم بعقد عمل وتتفاوت مساحة سلطته في هذه المسألة بحسب موقعه لكن يجب أن ينكر ما يُستنكر دينيا ووطنيا ومجتمعيا بيده ثم بلسانه ثم بقلبه ولا يكون بوابة الشرّ التي تأتي منها المثاقفة السلبية. لكن الدور المؤسسي مطلوب أيضا بأن تكون هناك رقابة كافية للمحتوى من قبل الجهات المسؤولة فيشعر المترجم أنه يعمل وفق منظومة متكاملة وقراره مدعوم بنظام قانوني يقوي موقفه.
جودة الترجمة
ما هي أبرز المعايير المعتمدة في تقييم جودة الترجمة؟ وهل ترون أن التأثير على القارئ أهم من الأمانة اللغوية؟ وهل يمكن أن تؤدي ترجمة سيئة إلى تشويه ثقافي أو مفهومي؟
إحدى أشهر مباحث علم دراسات الترجم هي تقييم الترجمة Quality Assessment وقد توصل العلماء لنماذج عديدة لتقييم الترجمة تتمايز في ما بينها بحسب أنواع النصوص وأهدافها ونوع المتلقي فالنص القانوني تعطى في ترجمته قيمة أكبر لمعيار دقة التعبير حتى وإن كانت الحرْفية فيه عالية بينما تمنح النصوص الأدبية والشعرية قيمة أكبر للإبداع وحسن السبك والأسلوب.
الذكاء الاصطناعي
ما موقفكم من تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الترجمة؟ وهل ترون أنه خطر حقيقي على مستقبل المترجمين أم أنه مجرد أداة يمكن توظيفها لتعزيز الجودة؟
أنصح طلابي دائما بالترجمة بأنفسهم أولا ثم الترجمة بالذكاء الاصطناعي والمقارنة بين النصين المترجمين والاستفادة من التعبيرات التي يتميز بها النص الآلي في ترجماتهم البشرية، فالاعتماد الكلي على الذكاء الاصطناعي أشبه بمن يقعد في مقعد السائق في سيارة يتوفر فيها خيار القيادة الآلية، فلا يتعلم القيادة ولا يصنع منه هذا الخيار مستقبلًا إلا سائقًا «غير ماهر» يكتشف بعد حين أنه فقد المهارة ولا يستطيع القيادة أبدًا. لذا فإن التعامل الأمثل مع الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون تعاملا ذكيا فيستفيد المترجم من استخدام التقنية لصقل مهارته وتحسينها لا أن يكون في الظل تماما.
من طرائف الترجمة
هل تواجهون في عملكم أو في الإشراف الأكاديمي مواقف طريفة أو كارثية ناتجة عن الترجمة الحرفية؟ وهل ترى أن القصص الطريفة يمكن أن تكون وسيلة تربوية لتعليم أخطاء المهنة وتفاديها؟
نعم، مر علي كثير من هذا وبعضها من شر البلية المضحك لكن معظم ما يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي هي ترجمات آلية ألصقت زورًا بالمترجمين كمن ترجم اسم فائز الشهري ب Winner Monthly.
وأنا ضد التجنّي على المترجمين ولست ضد سرد القصص الطريفة في الترجمة فهي مسلية وتنفع لجذب الانتباه وإيصال الفكرة المطلوبة ولكنها محبطة ومسيئة إذا كثر ذكرها وتضعف الثقة في المترجم البشري.
** **
@ali_s_alq