في مشهد يحمل أبعادًا رمزية وسياسية عميقة، ظهرت دمشق من جديد على شاشة المشهد العربي، لا من بوابة الحرب، بل من بوابة السياسة والمصالحة. هذا التحول لم يأتِ صدفة، بل كان نتيجة جهود دبلوماسية حثيثة قادها سيدي ولي العهد، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله-، الذي أعاد صياغة الدور الإقليمي للمملكة، بما يشمل ملف سوريا ورفع العزلة عنها.
لكن بعيدًا عن التحليل السياسي التقليدي، يمكن أن ننظر إلى هذا الحدث من زاوية تخصصية مختلفة: الترجمة. فهذا المجال، الذي يُعنى بنقل المعنى والرسائل بشتى أنواعها المسموعة والمرئية وبترجمة الوسائط المرئية والمسموعة مثل الأخبار، والأفلام الوثائقية، والخطابات السياسية، يتيح لنا فهمًا عميقًا لكيفية انتقال الخطاب السياسي من لغة إلى أخرى، ومن سياق إلى آخر، ويظهر كيف يمكن للترجمة أن تلعب دورًا محورياً في صناعة الوعي وتشكيل الرأي العام.
الرياض تُعيد دمشق إلى الشاشة العربية
منذ اندلاع الأزمة السورية، اختفت سوريا تدريجيًا من المشهد العربي الرسمي، وتقلص حضورها في القمم والمبادرات. غير أن المملكة العربية السعودية بقيادة سيدي ولي العهد -حفظه الله-، تبنّت في السنوات الأخيرة سياسة حكيمة تقوم على إعادة تشكيل العلاقات بين الدول العربية، وإعادة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية، والتي تعد خطوة تبعها تخفيف تدريجي للعقوبات المفروضة عليها.
الجهود السعودية لم تتوقف عند السياسة، بل انعكست على الخطاب الإعلامي نفسه. فظهرت تغطيات جديدة تتناول الوضع السوري بلهجة أكثر توازنًا، واستُعيدت بعض الأصوات السورية في الإعلام الخليجي. هذا التغير في النغمة، وإن بدا سياسيًا، إلا أن الترجمة كانت له مرآة دقيقة.
الترجمة: أداة لفهم التحول
الترجمة ليست مجرد نقل كلمات، بل هي فن إعادة إنتاج المعنى في سياقات مرئية ومسموعة، مع مراعاة الأبعاد الثقافية والسياسية والاجتماعية. في حالة الملف السوري، يمكن ملاحظة تحول الترجمة في النشرات الإخبارية، وفي الترجمة الفورية للمؤتمرات التي تعلقت بسوريا، وحتى في الوثائقيات السياسية.
فعلى سبيل المثال، لم تعد الترجمة تحصر سوريا في كلمات مثل «الأزمة»، بل بدأت تُستخدم تعابير جديدة مثل «العودة»، و»المصالحة»، و»إعادة الإعمار»، وكلها مصطلحات تعكس توجهًا سياسيًا جديدًا، يتبناه الإعلام, وينقله المترجم بدقة.
الإعلام والترجمة القوتيّن الناعمتيّن
لا تعمل الترجمة هنا بمعزل عن الإعلام، بل تشاركه صناعة الصورة. فكل تعليق صوتي على تقرير إخباري، وكل ترجمة فورية في مؤتمر سياسي، تساهم في إيصال رسالة. وقد لاحظنا أن القنوات الخليجية، خاصة السعودية، بدأت في إعادة بث مواد عن سوريا، مرفقة بترجمات دقيقة تنقل الخطاب الجديد إلى جمهور عربي أوسع.
ولأن الترجمة وخاصة السمعبصرية تُعنى أيضًا بلغة الجسد، ونبرة الصوت، وتناسق الصورة مع النص، فهي قادرة على نقل الإشارات السياسية التي قد لا تظهر في الكلمات وحدها. وبالتالي، تصبح الترجمة هنا أداة لفهم التحول في الموقف السياسي السعودي من سوريا، بل شريك في رسم هذا التحول.
من السياسة إلى الشعوب: الترجمة جسر التقارب
إن المبادرات السياسية، مهما بلغت قوتها، لا تكتمل دون أن تصل إلى الشعوب. وهنا يأتي دور الترجمة بشتى أنواعها، التي تترجم ليس فقط الكلمات، بل النوايا، والرؤى، وتساعد على بناء تقارب شعبي يعزز من نجاح المساعي الدبلوماسية.
من «الرياض هنا دمشق»، لم تعد مجرد جملة افتتاحية في نشرة قديمة، بل باتت عنوانًا لعصر جديد من الحضور السوري في الإعلام والسياسة العربيين، بوساطة دور سعودي محوري، وترجمة مهنية دقيقة تعكس هذا الحضور وتدعمه.
** **
- د. عبير بنت محمد القحطاني