الكتاب، ذاك الرفيق الصامت الذي لا يُملّ، يفتح لك الأبواب إلى عوالم لا حصر لها، ويمنحك من المعرفة ما لا تُحصيه المجالس ولا تُجاريه الأحاديث. حين تمسك كتابًا جيّدًا، فأنت تمسك بخيط يربطك بفكر إنسان عاش ربما قبل مئات السنين، لكنه ما زال يهمس في أذنك، يُحادثك، ويُحاورك، ويُحرّك فيك العقل والوجدان.
القراءة ليست مجرد تسلية ولا وسيلة تمضية وقت، بل هي فعل حياة، نضجٌ عقلي، وترقٍّ روحي. إنّها وسيلة لتهذيب النفس، تقويم اللسان، وتنقية الفكر من الشوائب، فبها يُرتفع الإنسان عن حضيض الجهل، ويترفع عن القشور والسفاسف، ويُصبح أكثر إدراكًا لمعنى الصمت حين يُصبح الكلام بلا طائل، وأكثر وعيًا بأين يضع خطواته، ومتى يتراجع.
القراءة تمنحك الحرية؛ حرية التفكير، حرية الاختيار، حرية التفريق بين ما يجب أن يُتبع وما يجب أن يُناقش. كم من إنسان بات أسيرًا لما يقرأ، لا يميز بين الغث والسمين، يظن نفسه قد بلغ مرتبة العارفين، وهو لم يُجِد بعد فنّ التفكر ولا التروي. ليس كل من قرأ، قد وعى، فهنالك من يقرأ كثيرًا، ولا ينتفع إلّا بالنزر، وبعضهم تتضخم حوله هالة من الوهم، فلا يرى الحق، ولا يُبصر الصواب.
وفي المقابل، هناك قارئ صادق، يسعى لاكتشاف ذاته، يُنصت للكلمة، ويتأمل الفكرة، يُنصف الكاتب حتى وإن خالفه في الدين أو الرأي أو الخلفية. لا يحكم على الكتاب قبل قراءته، ولا يُسارع إلى الرفض لأسباب سطحية. هذا القارئ هو من يستحق أن يُقال عنه مثقف، لا لأنه يقرأ فحسب، بل لأنه يتفكر، يميّز، ويختار بعقله لا بانفعاله.
وهناك من يقرأ لأجل الظهور، لا لذاته، يحرص على أن يراه الناس مع كتاب، لا أن يدخل فيه. يسعى للضوء لا للنور، يقرأ ليُصفّق له، لا ليُهذّب فكره. هؤلاء هم من يستعرضون القراءة ولا يمارسونها، يقتنون الكتب كما تُقتنى التحف، ولا يفتحونها إلّا لالتقاط صورة.
وفي الجانب الآخر، نجد قارئًا عاشقًا للكتب، يفتّش عنها كما يفتّش الغريق عن طوق النجاة. حين يقرأ، لا يقرأ لمجرّد الاطلاع، بل يبحث عن كلمة تهديه، عن فكرة توقظه، عن سطر يربت على قلبه المُتعب، أو يحرّره من ألمٍ دفين. يُدرك أن هناك كتبًا تأخذ بروحه بعيدًا، تُنسيه أحزان الدنيا، وتعيد تشكيله من جديد.
ليس المهم كم كتابًا تقرأ، بل كيف تقرأ، ولماذا تقرأ؟. لا ترتضِ لنفسك إلا النفيس، العميق، المكتوب بأسلوب رصين، وبلغةٍ تدلّ على سعة علم كاتبها وبراعة فكره. إنك حين تختار كتابًا، تختار رفيقًا لرحلة فكرية، فاجعل رفيقك نبيلاً، وذا أثرٍ، وذا عقل.
أن تكون شاعرًا، أو كاتبًا، أو إنسانًا ذا رأي، لا يعني أن تكون فصيح اللسان فقط، بل أن تكون قارئًا نَهِمًا، قارئًا للفلسفة والدين والتاريخ والعلوم والفنون، قارئًا يسكنه السؤال، ويحركه الفضول، ويشغله المعنى قبل المبنى. فمن أراد سعة الأفق، فليُكثر من القراءة، لا ليجمع المعلومات فقط، بل ليصقل روحه، ويُهذّب رؤيته.
وأخيرًا، تبقى القراءة فعلًا فرديًا حرًّا، لا يُملى على أحد، ولا يُفرض، بل يُمارس بإرادة حقيقية. حين تقرأ، فأنت تختار أن ترتقي، أن تفكّر، أن تعيش مع نفسك لا ضدها، أن تصنع وعيك بيدك لا بأيدي غيرك. فاقرأ، لا لأجل أن تكون مثقفًا في أعين الناس، بل لأجل أن تكون إنسانًا في جوهر نفسك.
** **
- صابرين البحري