في فضاء الثقافة العربية، يطل كتاب «نار الخبز بين الغذامي ونزار» للمؤلف عبد العزيز بن علي النصافي كواحد من الكتب اللافتة التي تمزج بين الحكاية والتحليل، وبين السيرة الغيرية وأدب الرسائل وأسلوب الصحافة. يقدّم النصافي نصًا طويل النفس يتخذ من الحبّ منطلقًا، ومن المقارنة بين الشاعر نزار قباني والناقد عبد الله الغذامي مادة رئيسة، فيعيد فتح ملفات الأدب والنقد، ويضيء مساحات لا تزال مشتعلة في المشهد العربي. فالكتاب ليس دراسة أكاديمية صارمة، ولا بحثًا تقليديًا مثقلًا بالمصطلحات، بل هو نصّ متحرّك، ينقل القارئ من دمشق إلى الرياض، ومن طفولة نزار الدمشقي إلى طفولة الغذامي في عنيزة، ومن المجالس الثقافية إلى صخب الصحافة والندوات التلفزيونية.
البدايات.. والذاكرة الشعبية
يبدأ النصافي رحلته من نزار قباني، الشاعر الذي جعل من القصيدة خبزًا يوميًا يتداوله الناس بمختلف طبقاتهم، إذ كتب بلغة بسيطة وشفافة دون أن يتنازل عن رصانتها وجمالها، فدخل بيوت الفلاحين والتجار والطلاب، وأصبحت أشعاره جزءًا من الذاكرة الشعبية. يروي المؤلف طفولة نزار في بيت دمشقي يفيض بالعطر والحنان، حيث الأب الذي جمع بين صناعة الحلوى وصناعة الثورة ضد المستعمر الفرنسي، والأم التي لم تتوقف عن تدليله حتى وهو في سن المراهقة، فانعكست هذه البيئة على شعره فكان عاطفيًا، مشبوبًا بالصور الحسية، قادرًا على اختراق القلوب بلا استئذان. لم يكن شعر نزار محصورًا في نخبة أو طبقة مثقفة، بل تحول إلى وجبة جماهيرية، وهو ما جعله عرضة للنقد بقدر ما كان سببًا في انتشاره الكبير، حتى قال أحد النقاد إن قصيدته باتت أشبه برغيف ساخن يتقاسمه الناس في المقاهي والبيوت.
الغذامي ومسارات جديدة
في المقابل، يرسم النصافي صورة عبد الله الغذامي، الناقد السعودي الذي وُلد في عنيزة عام 1946م ونشأ في بيئة علمية متقدمة شهدت مدارس مبكرة وحراكًا ثقافيًا سبق زمنه. نشأ الغذامي بين النخيل والكتب، ورافقه منذ طفولته ظلّ الأم فاطمة الجهنية التي تحوّلت إلى رمز في حياته، لتغذيه بالحنان والمعرفة. يكبر الغذامي ليصير أحد أبرز الأصوات النقدية في العالم العربي، يتنقّل بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، ويطلق كتبًا تثير الجدل مثل «الخطيئة والتكفير» الذي صدر عام 1985م وعدّه كثيرون نقطة فاصلة في تاريخ النقد السعودي، إذ هزّ الوسط الثقافي وأحدث انقسامًا واسعًا بين مؤيد ومعارض. يصفه النصافي بأنه صقر يحلّق من قمة إلى أخرى، لا يرضى بنوع واحد من الصيد، بل يفتّش عن مسارات جديدة، وينتقل من التنظير الأكاديمي إلى إثارة الأسئلة الشعبية عبر الصحافة والإعلام الجديد.
الذاكرة الثقافية
ويقوم جوهر الكتاب على المقارنة بين قباني والغذامي، لا من حيث اختلاف الأجناس الأدبية فقط، بل من حيث قدرة كلٍّ منهما على الوصول إلى الناس. كلاهما تجاوز حدود النخبة، ونزل إلى الشارع، وصار مادة للصحافة والنقاشات العامة. نزار فعل ذلك بشعره المغنى ولغته القريبة من القلب، والغذامي حقق الأمر نفسه بنقده الجريء وطرحه المباشر الذي لم يبق حبيس الجامعات وقاعات الدرس، بل خرج إلى صفحات الجرائد وبرامج التلفزيون ومواقع التواصل. هنا يجد النصافي أن الربط بينهما ليس افتعالًا، بل هو امتداد طبيعي لمسيرتين متشابهتين في الانتشار والتأثير، حتى قيل إن نزار هو «غذامي الشعر» وإن الغذامي هو «قباني النقد». كلاهما أشعل نارًا لا تزال تتقد في الذاكرة الثقافية.
ولا يخفي النصافي حضوره الشخصي في الكتاب، فهو يروي كيف تعرّف على شعر نزار في سنوات الجامعة من خلال الأغاني المغنّاة التي حفظها قبل أن يكتشف قصائده ودواوينه، وكيف تردّد في بداية مشواره الصحفي حين كان يفكر في محاورة الغذامي بسبب هيبته العلمية، ثم كيف غيّر الناقد الكبير نظرته حين أشاد بقصيدة كتبها النصافي باللهجة الشعبية، فكان ذلك أشبه بوسام شخصي لا ينسى. ويؤكد المؤلف أن الكتابة عن الغذامي كانت بالنسبة له مغامرة شجاعة، فهو شخصية استثنائية أثارت حولها الكثير من السجالات، ومع ذلك استطاع أن يحافظ على صوته المتجدّد، وأن يطلّ كل مرة بكتاب أو موقف يفتح أفقًا جديدًا.
من الناحية الأسلوبية، لا يعتمد «نار الخبز» على التقسيمات المنهجية الجامدة، بل يتعمّد الإكثار من الاقتباسات والحوارات والنصوص الطويلة التي تشكّل مادة الكتاب. الكاتب يتنقّل بين النصوص كما يتنقل بين الحقول، فيقطف من هذا المقال أو ذاك الحوار أو تلك القصيدة، ليبني فسيفساء غنية تعكس ملامح نزار والغذامي. هذا الأسلوب يجعل الكتاب قريبًا من القارئ العادي الذي يجد متعة في التنقّل بين القصص والشهادات، كما يجعله مفيدًا للباحث الذي يبحث عن شواهد ونصوص تؤرّ خ لتجربتين كبيرتين.
يطرح النصافي فكرة أساسية مفادها أن كلا من نزار قباني وعبد الله الغذامي استطاع أن يحوّل الأدب والنقد إلى «نار خبز» يتغذى بها الناس في حياتهم اليومية، فلا يعود الشعر ترفًا، ولا النقد حبيسًا في أبراج عاجية، بل يصبحان جزءًا من المشهد العام. نزار بجرأته العاطفية وصوره الحسية أعاد للشعر مكانته بين الناس، والغذامي بجرأته النقدية ومنهجه المتجدّد جعل النقد مادة للصحافة والجدل اليومي. وبينهما ينسج النصافي خيوط كتابه، ليقول إن الحب يمكن أن يكون منهجًا في النقد، وإن العاطفة والعقل شريكان في صياغة الوعي.
ويختم النصافي كتابه بالتأكيد على أن ما يجمع نزار والغذامي ليس فقط الانتشار أو الجدل، بل أيضًا القدرة على إشعال الأسئلة، وإثارة التفكير، وإبقاء الثقافة حيّة ومتحركة. لهذا يظل كلاهما مادة قابلة للاشتعال، تضيء ما حولها، وتمنح القارئ قبسًا من نارها. ولعل «نار الخبز» نفسه يصبح امتدادًا لهذه النار، كتابًا يضيء جانبًا من تجربتين استثنائيتين، ويفتح للقارئ بابًا جديدًا على التلاقي بين الشعر والنقد، بين دمشق وعنيزة، بين الورود والنخيل.