من هم الفقراء؟ وعن أي فقراء نتحدث؟ وكيف ينفق الفقراء أموالهم؟ والى مَن تذهب هذه الأموال؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تكاد تكون مستحيلة نظريا، بما أن الخبراء عادة ما يستخدمون عتبات محددة تشير إلى أدنى مستوى من الدخل الشهري للفقراء، فإذا قلنا: إن جميع الناس الذين يقل مستوى دخلهم في أوروبا عن 855 يورو شهريا يعتبرون فقراء، فهل يمكن لشخص يحصل على 900 يورو أن يعيش حياته بطريقة تختلف تماما عن حياة الفقراء؟
يستعرض كتاب» أين تذهب أموال الفقراء» جملة من المفاهيم التي تدور حول الفقر وماهيته، وانطلاقا من أهمية هذا الموضوع الذي يمسّ شرائح كبيرة جدا من المجتمعات البشرية، يعمل مؤلف هذا الكتاب دوني كولومبي Denis Colombi على تفكيك الأفكار المتداولة حول الفقراء بما في ذلك طرحه لعدد من الأسئلة: إذا كان الفقراء كسالى، فكيف يُنتج المجتمع هذا العدد الكبير من الكسالى؟ وإذا كان الفقر نابعا من نقص المؤهلات العلمية، فكيف يوجد هذا العدد الكبير من الناس بدون مؤهلات علمية؟ وإذا كان السبب هو فشل الفقراء الدراسي، فكيف يُمكننا تفسير وجود هذا العدد الكبير من الراسبين من غير الفقراء في الامتحانات الجامعية؟
ولأن المؤلف يتساءل عن كيفية إنفاق الفقراء لأموالهم البسيطة وعن المستفيدين من هذه النفقات، فانه يعتمد في تحليله لهذه الظاهرة على دراسات ميدانية عديدة أجريت في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي جعله يندهش من الدوافع التي تقود الى الحفاظ على نظام سياسي اقتصادي اجتماعي يؤدي الى إفقار البعض من أجل إثراء البعض الآخر.
السؤال الأهم الذي يطرح نفسه: من هم الذين يحافظون على الفقر والفقراء ومن المستفيد الأول من هذا الأمر؟ أهم الأغنياء أم المجتمع أم النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي؟
ان مؤلف كتاب أين تذهب أموال الفقراء، الذي ينتقد الإرادة السياسية التي لا تضمن توفير دخل جيد للفقراء، يرى أن الفقر لا يُعتبر مشكلة اقتصادية اجتماعية فحسب، بل سياسية بالأساس. ولتقليل هذه الظّاهرة الاجتماعية التي ازدادت نسبتها في كثيرٍ من المجتمعات، فإننا نحتاج الى إعطاء الفقراء المال بما يكفي لتمكينهم من تحقيق حياة كريمة أو على أقل تقدير تمكينهم من الوصول إلى المال. إن هذا الحل البسيط للغاية لا يشكل عبئا اقتصاديا يستعصي على الحل، لكنه يتطلب إرادة سياسية قوية. فإذا كان الفقر موجودا، فهو نتيجة لنظام سياسي اقتصادي اجتماعي معقد لدرجة كبيرة، الأمر إذن يجعل ممارسات الفقراء الاقتصادية تتمتع بمنطقها الخاص بما أن كيمياء تحويل المال الضعيف إلى رأس مال قوي ليست في متناول أيديهم، وبالتالي سينتهي المطاف دائما بانتقال أموال الفقراء لصالح جهات فاعلة أخرى كالرأسماليين الأثرياء.
يشير دوني كولومبي Denis Colombi في كتابه الى أن البعض يعتقد أن الفقراء ينفقون أموالهم بطريقة تجعلهم يتحملون المسؤولية عن وضعهم المادي الصعب، فهواتفهم الذكية وأجهزة التلفزيون التي يمتلكونها والملابس الأنيقة التي يشترونها تبدو كأنها نفقات غير ضرورية. هذه هي الأحكام المسبقة التي يريد دوني كولومبي تفكيكها من خلال تفسيره السوسيولوجي للسلوك الاقتصادي للفقراء: فهؤلاء الفقراء ليسوا أقل عقلانية من الأثرياء، ولكن وضعهم المادي يفرض عليهم قيودا لا تسمح لهم بالتصرف وفقا لممارسات الأثرياء الاقتصادية. ولهذا فان دوني كولومبي Denis Colombi يدحض الفكرة التي تقول بأن الفقراء يديرون أموالهم بشكل سيئ.
فهل يتعين على الفقراء أن يتخلوا، بسبب نقص المال، عن المتطلبات الحياتية التي تبدو بديهية كالسكن الجيد والذهاب إلى المطاعم وشراء الملابس الجميلة أو حتى السفر؟ انهم يتعرضون للانتقاد بسبب نزعتهم الى الاستهلاك بشكل مفرط، لكن وفقا لمؤلف كتاب» أين تذهب أموال الفقراء «، فإن هذه التجاوزات الاستهلاكية تعتبر ضرورية جدا لجعل حياة الحرمان محتملة. ومن أجل تسليط الضوء على عقلانيتها، يلفت كولومبي الانتباه الى نفقات الفقراء التي قد تبدو للوهلة الأولى مفرطة أو غير ضرورية: فبعض النفقات تبدو ضرورية لضمان الحد الأدنى من الكرامة الاجتماعية، مثل شراء الفقراء ملابس لأطفالهم من المتاجر المتخصصة في الماركات العالمية وذلك للحدّ من التنمر الذي يعاني منه أطفالهم في المدارس، وأيضا شراء الهواتف الذكية التي تعتبر ضرورية من أجل العثور على عمل أو بدافع تسهيل تعاملاتهم مع المؤسسات، إذن يُعتبر السلوك الاقتصادي للفقراء شكلا من أشكال الإدارة العقلانية لمستوى دخلهم المادي.
في واقع الأمر، ووفقا لمؤلف كتاب» أين تذهب أموال الفقراء «، فإن الفقراء مجبرون على إدارة ما لا يستطيعون إدارته. ليس فقط لأن دخلهم المادي غير كاف أو غير منتظم، بل لإنه يُستخدم إلى حد كبير في تغطية النفقات الأساسية، مثل إيجار المسكن ودفع فواتير الكهرباء والمياه والغاز والهاتف والانترنت. إذن سيصبح الحصول على المال مصدر قلق دائم لهم. وبحسب رأي المؤلف، فليست السمات الشخصية وسلوكيات الفقراء هي السبب في الفقر، بل إن الفقر نفسه هو الذي يفسر سلوكيات الفقراء. إن كل التفسيرات السيسيولوجية للفقر ليست أكثر من مبررات أيديولوجية، لهذا لا يمكن اعتبار الفقر حرمانا ماديا فحسب، بل يجب اعتباره إقصاء اجتماعيا، الأمر الذي يحد من إمكانيات العمل الجماعي. ولكي نحارب الفقر، يتعين علينا أولا أن نحرر أنفسنا من الأحكام المسبقة، ولكن أيضاً أن نتوقف عن استخدام المساعدات العامة كأداة للسيطرة على الفقراء.
ان التمثيلات الاجتماعية للفقراء تعتمد إلى حد كبير على التمييز بين الأخيار والأشرار منهم. وبطبيعة الحال، فإن الأخيار من الفقراء هم الذين يستحقون المساعدة، أما الآخرون فهم مجرد طفيليين مسؤولين عن أوضاعهم الاجتماعية المتدنية. تكمن المشكلة في أن الأخيار من الفقراء ليسوا سوى صورة تجريدية لا علاقة لها بالواقع، لكن هذه الصورة تجبرهم باستمرار على تبرير أوضاعهم المعيشية المزرية من أجل الاعتراف بأنهم فعلا فقراء. لكن لا يزال الغموض يشوب سلوكياتهم التي تبقيهم في حالة فقر. وبحسب دوني كولومبي، فإن هذا التمييز يشكل العائق الكبير أمام الفهم الاجتماعي للفقر.
تشير العديد من الدراسات، وفقا لكتاب دوني كولومبي، إلى أن الفقراء يدفعون بصعوبة أجرة المساكن المتزايدة باضطراد. ويصعب عليهم الحصول على الخدمات الائتمانية والمصرفية، لهذا فإنهم يلجؤون لاستخدام كروت الائتمان، ومن ثمّ يدفعون فوائد بنكية عالية. إن عدم الاستقرار المالي للفقراء يجعلهم مضطرين إلى قبول وظائف برواتب ضعيفة. إن هذا الاستغلال الاقتصادي يفيد بالدرجة الأولى أصحاب رؤوس الأموال.
ومن أجل القضاء على الفقر، يشير المؤلف الى أنه يتعين علينا أولا أن ننجح في تغيير الطريقة التي ننظر بها إلى الفقر. هذه هي النقطة الأساسية في هذا الكتاب السوسيولوجي الذي يدحض التمثيلات الشائعة، فرؤية أم فقيرة تأخذ أطفالها إلى مطعم للوجبات السريعة تجعلنا نفكر في توفير أطعمة صحية وجيدة لأمثال هؤلاء وهذا حقهم ويعتبر من البديهيات التي يجب النظر اليها بعين الاعتبار.
** **
أيمن منير - أكاديمي وكاتب ومترجم مصري
ayman-mounir.webnode.fr