بحث تقدمت به إلى مؤتمر الإبل في جامعة الملك سعود الموقرة، وكان المشرف عليه سعادة الأستاذ الدكتور هاجد الحربي -رحمه الله- يحثني بحكم صلتي بالإبل وأهلها على إنجازه وقد أنجز، ولكن لا ينفذ إلا ما قدره الله، مثلما قد قلت في بيت من الشعر:
ترى العوارض تصير بعيد وقريّب
ولا حدٍ يقدّر متى ما كانت الخيرة
وكان عنوانه (الإبل عناية ورعاية وحماية) وقد قُبل، وحيث العناوين منصبة على الإبل فلعل عذر المنظمين هو التماس التنوع من كل بلد، ومن كل بستان زهرة فلم يجعل البحث من ضمن المتحدثين، وإنما قالوا: يعرض في الملصقات، فجنبونا عرض البضاعة على قلتها وأن نستمع أكثر مما نقول، ولم يهن على النفس أن تجود به ضمن الملصقات والخيرة فيما اختاره الله، فتنامى البحث كما وكيفا، وظهرت مباحث كل منها يسدّ مسدّ غيره، وإن كانت قبل لا تسدّ مثل ما استجدّ:
ما سدَّ حيٌّ ولا ميتٌ مسدَّهما
إلّا الخلائف من بعد النبيينِ
إذن رحم الله من أحسن بنا الظن ولا نقول: إننا متباكون على ما سلف:
إني لباكٍ على ابنيْ يوسف جزَعًا
ومثلُ فقدهما للدين يبكيني
فكل مبحث من المباحث الثلاثة استقلّ بنفسه وأصبح ينيف على صاحبه، وكأن ذا الأصبع العدواني قصده:
لي ابن عمٍّ على ما كان من خلق
مختلفانِ فأقليه ويقليني
فهذا الإقلاء هو غيرة من الفخر لا من الإعدام والفقر:
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا
فخالني دونه وخلته دوني
والشَّوْل ما يهمنا من معناه في التوظيف هو الرفع إلى العلا، وإن الناقة المحيل قد لقحت واستغنت عن الفحل، فإذن عفاف ورفعة وهذا ما تناسق للمباحث الثلاثة، وكاد كل منها أن يفاخر ويكايد صاحبه وغيره، كما قال العدواني:
وأنتم معشرٌ زيدٌ على مئة
فأجمعوا أمركم كلًّا فكيدوني
أما شالت نعامتنا كناية عن الاختلاف والتفرق أو مثلما يقال: وزّف رألها، فهذا للبحوث صفة تميز كل واحد عن أخيه؛ لسعة الموروث التراثي ونشاط الموروث المورَّث إذا زها وخفَّ، كابن هذه النعامة في صباحه المشرق الغائم أو مسائه حين يهب برد الشمال ويحين الرواح.
وقد كان مستهل مطلع البحث «يتأسس أي بحث ترتيبا وتبويبا على ما يقدره باحثه وفق مقتضيات عناصر العنوان شريطة أن تفي بموضوعها وتخدمها المصادر والمراجع) وقاربنا مثلما قال لبيد بن ربيعة العامري -رضي الله عنه- إن الحال في الربيع تخالف الصيف وشدة القيظ تخالف انتجاع المصفار أو الخريف حين تتمايز شدة القيظ:
ورمى دوابرها السَّفا وتهيجت
ريح المصايفِ سومها وسهامها
هذا في باب الرعاية وحسن التدبير ومعرفة ما يناسب وما لا يناسب، وهذا عام في الحياة كل وقدرته على التوظيف له ومصاحبة التوفيق وعناية المولى، أما شاهد الحماية وإن الشاة من الغنم يستفرد بها الذئب حين تكون قصية:
فأبّلَ واسترخى به الخطب بعدما
أسفَّ ولولا سعينا لم يؤبلِ
أي أنه لولا حمايتنا والدرء عنه لا يستطيع حماية نفسه فكيف بما كسب؟ فهنا يكون حسن التظافر والتناصر.
ولا يغيب عن الذكر قول المزني زهير:
فمن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدّم ومن لم يظلم الناس يظلم
وهذا الأمر على فظاعته وفظاظته قد كفانا الله مؤنته، وقامت الحكومة الرشيدة بمعونته ودخل الناس في السلم كافة، وأما المقصود بالعناية فهو اختيار الأوقات المناسبة للانتجاع والارتباع والاصطياف، ويدخل في هذا الإقامة وقطين الماء، كقول السلمي عباس بن مرداس- رضي الله عنه:
لو أن قطين الدار لم يتحملوا
وجدت خلال الدار ملهى وملعبا
وقد قال زهير قبله:
فلما وردنا الماء زرق جمامه
وضعنا عصي الحاضر المتخيمِ
وأما حين مداومة الصحبة مع الإبل، فكقول العبدي:
وقد تخَذتْ رجلي إلى جنب غَرزِها
نسيفًا كأفحوص القطاةِ المطرّقِ
ولا تتأتى الرعاية إلا بعناية وحماية كقول الحارثي:
فإنّ بجنبا سحبلٍ ومضيقه
مُراقَ دمٍ لن يبرحَ الدهرَ ثاويا
وسحبل جنوب تثليث وشمال شرق العرين، والحارثي يقول بصريح العبارة: لن يحمي الإبل إلا دم يراق وينقع، حتى يتلبس بالتراب ويتصلد لا يمحى إلا بعد حين، والإبل النجائب لها صبر على الأسفار ولا يستغنى عنها توصيلا وتأهيلا، أي تؤهل صاحب كل حاجة إلى مقتضاها.
وقد قال حميد الهلالي-رضي الله عنه:
على أحوذيّين استقلّت عشية
وما هي إلا لمحةٌ فتغِيبُ
إذن هذا من حياة البادية على اختلاف أحوالها وأوقاتها؛ مرّ سعة في العيش ودعهْ، وأحيانا امحال تشيب له عيون المرضعين:
لمّا رأى ألا دعهْ ولا شبعْ
مالَ إلى أرطأة فالطجع
فالالطجاع هو الاضطجاع، والأرطاة نبت من أشجار الدبيغة، والحقف من الرمل له تعريف يتسع. وقوله: مال إلى أرطأة فالطجع، فما زال الناس يقولون: إذا كثرت همومك يا لراعي فارقد. ولا يزال التراث الشعبي متصلا بسابقه خلف يقتدي بسلف لمن أحسن الاستشفاف مع الاقتصار على الاستعفاف.
قورب ما لمّ بأطراف المباحث إيجازا، إن كان على ما يخل فإنه بإذن الله لا يمل.
والحمد لله رب العالمين وللحديث تكملة حتى يتسع له مجال الثقافية الغراء.
** **
تركي بن شجاع بن تركي الخريم - باحث يهتم بالتراث الجغرافي والقبائل - الخبر