لم أخبر أحداً بعزمي على زيارته التي قد تكون الأخيرة، استيقظت بعد نوم متقلّب، حيرة استبدّت بي منذ الأمس، بين إقدام ونكوص، ومع انبثاق نور الفجر خرجت، في هذا الوقت لن أجد عنده أحداً.
منذ أن سمعت أنّه في مرض الموت وطئتني الأوجاع وتعاقبت عليّ الظنون الكريهة.
برّح المرض في جسدي وطوتني غمامة شؤم أن أجلي اقتربَ أيضاً، فسخرت من الحياة وتهكمّت بمن يتعلّق في أذيالها.
يا لتلك الحادثة الفاصلة في حياتنا، أتذكَّر احتدام النقاش والتلاسن والتخوين والاتهامات المترادفة حول الميراث، كان المحامي يذكي النار المتقدة ويتفانى في الدسائس بيننا، ومع كل ذلك كنت منهمرة غضباً وكنت أتلقف أحاديث المحامي المؤلمة وأرددها على نفسي في حالات سكوني حتى أنضجتني.
لم أتبيّن الحقيقة، وأن المحامي كان ينفخ في النار إذا توارت شعلتها، لم أفق إلا بعد مضي سنين طويلة فعصرني الندم ولم تفارقني بوادره حتى ألفته، ثمّ تصالحت معه وسارت بي الأيّام إلى أن عصف بي خبر مرضه، هنا استفاق قلبي على حقيقة مؤجلة، يجب أن أصل إليه قبل أن يصله الموت، يجب أن أتطهّر أمامه من براثن الندم المستساغ، لن أدعه يغادر وهو مكلوم القلب.
أوقفتُ سيارتي بعد مئات الأمتار من مبنى المستشفى، أريد أن أعيد صياغة الأحداث، لأستلهم جملة قصيرة تكون كافية عن كلّ الكلمات التي أرسيتها منذ الأمس بحنجرتي.
في الطابق الثالث في الغرفة 301 طرقتُ الباب بخفة، أدرت أكرة الباب ودفعته، دخلت بترقّب متوجسة قلقة، في سريره تتصل عدّة أنابيب ببطنه وأكياس طبية معلّقة على جانب سريره، هبطت على ذاكرتي صورته حين احتدم النقاش بيننا حول الميراث، ملامحه في ذلك اليوم هي الوحيدة الباقية حين تستدعيه ذاكرتي، حتى صور طفولتنا غادرت ذاكرتي بفعل سطوة ملامحه الأخيرة، ودارت أيامنا.. عشرون عاماً بأيد محامين لا يشبعون من المال أو الوقت.
الآن أجرّ خطواتي وانكساراتي، ليت معادلة الزمن تتغيّر لأنجو من فعل الندم الذي يقتاتني منذ علمت بمرضه كنتُ أنتظر وقتاً وأخمّن أن سيكون قريباً لأحبو إليه وأعتذر له عن سوء ظني الغبي، لكن هيبة لقائه تخذل كلّ خطواتي إليه، لن أستطيع الصمود للحظة أراه يبصرني فيها، خذلته طوال خمسة وعشرين عاماً، فكيف سيقبلني؟
ومع كل خطوة أخطوها إليه بدأت ملامحه الطفولية تصلني من بعيد، لا أعلم لماذا بدأت في هذه اللحظة أتذكّره تماماً في كلّ حالاته، في طفولتنا، في شبابنا، ولن أنسى دموعه المحتبسة ليلة زفافي، تدافعت الأحداث على ذهني وكأنها انفجرت فجأة من عمق الزمن الماضي، تلذّذت بها أيّما تلذّذ، وقبل أن ألج بوابة المستشفى اتكأت إلى الجدار مستدرّة بقايا ذاكرتي اللَّذيذة.
أوقفني موظف الأمن بحجة أن لا زيارات في هذا الوقت المبكر من الصباح، غرزت نظراتي في وجهه باكية فلم تشفع لي دموعي، خرجت واتجهت إلى المبنى الإداري الملحق بالمستشفى، المبنى فارغ صامت في هذا الوقت المبكر، رأيت باباً ينفذ إلى ممر المستشفى، ولجت منه، سرت إلى غرفته..
صمت خمسة وعشرين عاماً يدوي في أذنيّ، اشتعلت هيبته فور وقوفي أمام باب غرفته، دفعتني ظنوني إلى التراجع والنكوص، لا، لن أستطيع الوقوف أمامه، هممتُ بالعودة ففُتح الباب، خرجت الممرضة وأمسكت الباب لحين دخولي، دفعت خطواتي ودخلت.
الأجهزة تحوطه من كل جانب، ووجهه صامت معلّق في الهواء، فتّشت ذاكرتي لأقرأ ملامحه، اقتربت منه، جلتُ في ملامح وجهه أبحث عن ملامحه تلك، حين كان وكنّا، قبّلت جبينه ففتح عينيه بنصف إغماضة، أبصرني فارتميت منكبّة على صدره، لحظات ثمّ رفعت رأسي، شفتاه تختلجان وكلمات تخبّ بين شفتيه يغالب البوح بها، يده الباردة سقطت فيما صرخ الجهاز بجانبه.
** **
- عبدالكريم بن محمد النملة
@rhrh5576