في عالمٍ يَختلط فيه الصدقُ بالزيف، والحقيقةُ بالهوى، يقف الناقدُ كحارِسٍ لبوابةِ الفكر، يحملُ في يديه ميزانَ الموضوعية، وفي قلبه جمرةَ الشغف. إنها رحلةٌ شائكةٌ يخوضها بين مطرقةِ الذات وسندانِ العالم، حيثُ تتدافعُ فيه أسئلةُ الحياة: كيف يُمكن للكلماتِ أن تظلَّ محايدةً في بحرٍ من المشاعر؟ وكيف يُمكن للعقلِ أن يَصمدَ أمامَ عواصفِ التحيزات؟
ليس النقدُ مجردَ حروفٍ تُنسجُ على الورق، بل هو انعكاسٌ لصراعٍ داخليٍّ بين ما نُريدُ قولَه وما ينبغي قولُه. فالناقدُ الحقيقيُّ يشبهُ ذلك الرسامَ الذي يرسمُ لوحتَه بألوانِ الحقيقة، لكنَّ يدَيه ترتعشان خوفًا من أن تتحولَ اللوحةُ إلى مرآةٍ تعكسُ وجوهَ الذين يَنتقدهم.
هنا تكمنُ المعاناة الأولى؛ الخوف من أن يصبحَ الحيادُ خيانةً للذات، أو أن تتحولَ الموضوعيةُ إلى قناعٍ يخفي وراءه أطيافَ التحيز.
ففي لحظةِ الكتابة، يُواجِهُ الناقدُ سؤالين مهمين: هل يُمكن فصلُ الشخصيِّ عن العام؟ هل يُمكن أن تظلَّ الكلماتُ طاهرةً من أدرانِ الهوى؟ إنها معضلةٌ تُذكِّرنا بأسطورةِ «سيزيف»، الذي يحملُ صخرةَ الحيادِ إلى قمةِ الجبل، لتعودَ وتتدحرجَ إلى الحضيضِ كلما اقتربَ من ذروةِ الموضوعية.
يقولون إنَّ الناقدَ يُشبهُ القاضي، لكنَّ الفارقَ الجوهريَّ هو أنَّ القاضيَ يحكمُ بقوانينَ مكتوبة، بينما الناقدُ يحكمُ بقوانينَ لا تُرى، تُنسجُ من خيوطِ الثقافةِ والخبرةِ والضمير. هنا تكمُنُ المُعضلةُ الثانية: كيف يُفرقُ الناقدُ بين صوتِ ضميره وصوتِ مجتمعه؟
لطالما كان التحيزُ هو العدوَّ الخفيَّ للنقدِ الموضوعيّ. فالناقدُ الذي يُعلنُ محاربته للتحيزِ يشبهُ من يُحاربُ ظلَّه؛ كلما اقتربَ منه، زادَ ابتعادُه. قد يبدأُ الكاتبُ رحلتَه برغبةٍ صادقةٍ في الحياد، لكنَّ الثقافةَ التي نشأَ فيها، أو التجاربَ التي عاشها، تزرعُ في لاوعيه بذورَ التحيز، فتنمو كالأعشابِ الضارةِ بين سطورِ نقده، ومن يكتب لهم وعنهم سيبجلونه بأسمى الصفات والألقاب..!
في زمنِ وسائل التواصلِ الاجتماعي، حيثُ يتحولُ كلُّ فردٍ إلى ناقدٍ، ويُختزلُ الفكرُ في «إعجابٍ» أو «تعليقٍ»، يواجهُ الناقدُ المُحترفُ إشكاليةً نفسية: كيف يُحافظُ على صوتهِ في خضمِّ هذا الضجيج؟ إنه يشبهُ عازفَ كمانٍ يحاولُ أن يُسمعَ نغماتِه في وسطِ مهرجانٍ للروك.
هنا تبرزُ معاناةٌ جديدة: صراعٌ بين الرغبةِ في البقاءِ محايدًا، والرغبةِ في أن يكونَ له صوتٌ مسموعٌ وسطَ زحامِ الآراء. فالنقدُ الموضوعيُّ قد يبدو للبعضِ كصوتٍ باهتٍ أمامَ صخبِ التعصباتِ الجاهزة، مما يدفعُ بعضَ النقادِ إلى التخلي عن جزءٍ من حيادهم ليكتسبوا جمهورًا، في سقوطٍ أخلاقيٍّ يُشبهُ انتحارًا فكريًّا.
ربما يكونُ السرُّ، في التخلص من وَهْمِ الحيادِ المطلق. فالنقدُ، كأيِّ عملٍ إنسانيٍّ، لا يُمكن أن يَخلو من بصمةِ صاحبه. لكنَّ الفارقَ بين الناقدِ الموضوعيِّ والآخرِ المتحيزِ، هو أنَّ الأولَ يعترفُ بتحيزاتهِ ويُحاولُ تجاوزها، بينما الثاني يتخذُ من تحيزاتِه مبدأً مقدسًا طالما هناك من يصفق له!
لعلَّ الحلَّ يكمنُ في اعتمادِ «الحيادِ الواعي»، حيثُ يَطرحُ الناقدُ أفكارَه كعالمٍ يَقدمُ نتائجَ تجاربه، مُرفقةً بكلِّ الأدلةِ والهوامشِ التي تَكشفُ طريقتهُ في التفكير. بهذه الطريقة، يُصبحُ النقدُ حوارًا مفتوحًا مع القارئ، لا خطابًا مُطلقًا يُقدمُ نفسه على أنَّه الحقيقةُ المطلقة.
في النهاية، معاناةُ الناقدِ هي معاناةُ الإنسانِ الباحثِ عن الحقيقةِ في عالمٍ يَئنُّ تحت وطأةِ الأكاذيب. إنها رحلةٌ لا تنتهي، لكنَّ كلَّ خطوةٍ فيها تُذكِّرنا بأنَّ الفكرَ الإنسانيَّ، رغم هشاشته، يَبقى أقوى أداةٍ لدينا لمقاومةِ ظلامِ التحيز.
فليست الحياديةُ هنا غايةً، بل هي طقسٌ يوميٌّ من التطهير، حيثُ يُخلعُ الناقدُ أرديةَ الذاتِ ليكون مرآةً عاكسةً للعالم، مرآةً لا تَخفي عيوبَها، بل تَعترفُ بها كجزءٍ من جمالِ الحقيقةِ الناقصة. وهكذا، يُصبحُ النقدُ فنًّا للعيشِ بكرامةٍ، في زمنٍ يَختنقُ بالتناقضات.
** **
- سعد الساعدي