الثقافية - علي القحطاني:
غياب الناقد الحقيقي يُعد من أبرز العوائق التي تعرقل فاعلية النقد في المشهد الثقافي، وتُبقيه رهينًا للأصوات المكرّسة وأنماط التلقي العاطفي. أما الصحافة الأدبية فقد شهدت تراجعًا ملحوظًا عن أدوارها المحورية، بعدما تحوّلت التغطيات إلى نشاط مؤسسي تقليدي، وانسحبت من ميدان المساءلة والاشتباك مع القضايا الثقافية الحيوية.
واعتبر الكاتب والناقد علي فايع الألمعي في لقاء لـ«الثقافية» أن المنصات الرقمية أسهمت في إعادة تشكيل خارطة التأثير الثقافي، وفتحت المجال أمام ظهور أصوات جديدة، في مقابل انكشاف هشاشة بعض الأسماء التي لم تصمد خارج دائرة التلميع المؤسسي. كما أشار إلى أن هذه الشبكات عززت من فرص الانتشار للكتّاب الحقيقيين، وأتاحت مساحات حرة للنقد العلني الذي لا تمرّره المؤسسات الرسمية.
وشمل انتقاده أيضًا بعض الأكاديميين الذين -حسب تعبيره- دخلوا فضاء التواصل الاجتماعي بذهنية «الهيبة والوقار»، لا بعقلية الحوار والانفتاح، رافضين الاختلاف، وقاصرين دوائر تفاعلهم على حلقة ضيقة من المصفّقين، وهو ما اعتبره من أسباب الاحتقان المعرفي وغياب النقاش الجاد داخل الوسط الثقافي.
وفي سياق تقييمه للمؤسسات الثقافية الحديثة رأى علي فايع الألمعي أن التنوّع القائم أقرب إلى كونه شكليًا منه وظيفيًا، حيث تتشابه الأنشطة والبرامج بين «الشريك الأدبي»، و»جمعية الأدب»، و»الأندية الأدبية»، مشددًا على أن التكرار لا يُنتج حراكًا حقيقيًا، وأن المرحلة تستدعي أفكارًا جديدة وأدوارًا محددة بوضوح لكل جهة.
كما رفض الاتهامات التي تصفه بالساخط أو المتذمّر، مؤكدًا أن ما يطرحه يندرج ضمن النقد المتزن والمتابعة الجادة دون ارتباط بدعوات أو تكريمات أو مصالح. وأضاف أنه لا يحظر المختلفين، ولا يتهرّب من النقاش بل يتفاعل مع كل رأي يحترم الفكرة ويُسهم في إثراء الحوار الثقافي.
وشدّد على أن ما يُعرف اليوم بـ«النجومية الثقافية» بات لدى بعضهم مجرد وهم رقمي، يغذّيه تضخّم المتابعات دون محتوى نوعي، معتبرًا أن القيمة الحقيقية تظل مشروطة بالعمق، والمضمون، والقدرة على إحداث أثر يتجاوز حدود التفاعل اللحظي.
واختتم على فايع الألمعي حديثه لـ«الثقافية «بالتأكيد على أن النقد ليس حكرًا على أسماء بعينها، وأن المشهد الثقافي لا يُبنى على رمزين أو ثلاثة، بل يقوم على التعدد، والجرأة، والانفتاح، وعلى الاعتراف بحق الجميع في المساءلة، والاقتراح، والنقد.. بشرط أن تكون الكلمة صادقة، والرؤية مسؤولة.
الصحف الورقية
بحكم عملك الصحفي، كيف تقرأ التحوّلات التي طرأت على الصحافة الثقافية خلال السنوات، وغيابها عن تغطية المناسبات الثقافية؟
الصحافة الأدبية لا شك أنها تراجعت كثيرًا لأسباب نعلم بعضها ونجهل بعضها الآخر، فالصحف الورقية لم تعد كما كانت، والمواقع الإليكترونية الجديدة تبحث عن مشاهدات وفي الغالب تكون صدى وليست صانعة للحدث!
ليست المهمة الأولى للصحافة - كما أظن - تغطية المناسبات، وملاحقة الفعاليات هنا وهناك، بل مهمة الصحافة الثقافية الكبرى مساءلة هذه المناسبات ومشاكستها، وخلق حوار حولها، وإثارة الأسئلة. أما التغطيات فقد أوكلت مهمتها للاتصال المؤسسي في كلّ مؤسسة ثقافية أو هيئة لذلك توقفت أدوارهم عند الإعلان والنقل وربما التنويه ولفت الانتباه، ما بعد ذلك الواجب أن يكون مسؤوليّة الصحف والصحفيين والناشطين الأدبيين والثقافيين إن وجدوا !
المؤسسة الأكاديمية
ما خلفية التوتر الذي يظهر أحيانًا بينك وبين بعض الأكاديميين؟ هل هو خلاف فكري أم موقف من المؤسسة الأكاديمية ذاتها؟
بالنسبة لي، لا أنظر لما يحدث على أنّه خلاف ولا توتر، كلّ ما في الأمر أنّ وسائل التواصل عرّفتنا على بعض هؤلاء الأكاديميين وسمحت لنا بمساءلة بعضهم الآخر، فقرأنا ما يكتبون بشكل مباشر بعيدًا عن التزيين والتلميع!
كانت النتيجة أن تواضع لنا بعضهم لأنهم دخلوا إلى عالم آخر يختلف كليًّا عن العالم الذي يعيشون فيه ( أقصد الجوّ الأكاديمي) وهم يعلمون طبيعة هذا الاختلاف، لذلك كان حضور هؤلاء مضيفًا ومفيدًا!
على الجانب الآخر هناك بعض الأكاديميين دخلوا لهذا العالم بالتفكير الأكا ديمي القديم، الهيبة والوقار والبشت، لا يقبلون الاختلاف، ولا يستوعبون أنّ هناك مجتمعًا آخر يعيش خارج الدرس الأكاديمي، وهذا المجتمع يقرأ ويتابع ولديه أسئلة كثيرة وآراء مفيدة ومضيفة، لذلك كان تعامل هذه الفئة مع شبكات التواصل والمنصات الجديدة بطريقة التعامل مع الدرس الأكاديمي، فلا يتحاورون، ولا يقبلون أن يتحاور معهم أحد، ولا يخرجون من حساباتهم إلاّ لأمثالهم، وإن شقّ عليهم شيء كان «الحظر» وسيلتهم الأهمّ في قطع هذا التواصل والاستمتاع بما يظنونه غنائم من المتابعين والمشاهدات والتعليقات التي عادة ما يكون طابعها الثناء والتصفيق!
هذا التفكير لا شك أنه يخلق الخلاف وليس الاختلاف، لكنه مهم وضروري ومع الوقت ستتغير أشياء كثيرة، ولن يبقى إلا ما ينفع الناس!
الفعاليات الثقافية
• كثيرًا ما تُتّهم بأنك ساخط على الفعاليات الثقافية الرسمية.. ما دوافع هذه النقمة؟ وهل تجد أنها فقدت صدقيتها؟
أولاً أنا -ولله الحمد- لست ممن يبحثون عن الدعوات والكراسي المذهبة ولا أحبّ التقاط الصور في المناسبات الثقافية ولا اللقاءات ولا أحبّ أن يكون لي تعليق في كلّ مقهى أو ناد ولذلك استبعد مسألة أنني ناقم!
ومن يتهمني بأنني ساخط على فعاليات ثقافية رسميّة واهم. نعم، أنا متفاعل جدًا مع هذه المناشط، ومتابع جيد، ولكنني إنسان متسائل، وتلك طبيعتي، وأسئلتي التي أكتبها أو آرائي التي أصدرها في غاية الأدب، ولا تستخف أو تحرّض أو تدعو إلى مقاطعة أو عداء!
أنا مهتمّ بالعمل الثقافي، ومتابع له، لذلك أسئلتي وتعليقاتي تنطلق من هذا الميدان وإليه، وليس في هذا عيب ولا محظور كما أظنّ!
المزاج الثقافي
خضت مشكلات علنية مع بعض الأدباء في منصات التواصل.. ما أسباب هذا التوتر؟ وهل للمزاج الثقافي العام علاقة بذلك؟
بالنسبة لي ليست مشكلات، أنا إنسان أحب الحوار، والهدف من وراء ما يظهر للآخرين على أنّه خلاف، هو البحث عن معنى لما نكتب وما نقول، مشكلتنا اليوم أنّ هناك من يدعو للحوار والاختلاف، لكنه يفشل في التطبيق!
شبكات التواصل كان لها دور كبير ومهم في تهذيب هذا الفشل!
بعض الأدباء والمثقفين لم يدخلوا لمنصات التواصل الاجتماعي من أجل الحوار والنقاش، والإرسال والاستقبال، هناك من دخل إليها ليكون مرسلاً فقط، لا يقبل الاختلاف ولا استقبال المختلف، لذلك يحدث أن تكون هناك مشكلة أو خطأ أو فهم قاصر ولا يمكن الأخذ والعطاء فيه مالم تكن هناك قابليّة لدى المرسل في القراءة والمراجعة وحتى الاعتراف بأنّ لديه قصورًا ما في رأي أو موقف!
المزاج الثقافي العام ليس مسؤولًا -كما أظن- عن أخلاقنا ولا عن جهلنا ولا عن آرائنا، المزاج الثقافي يصنعه المثقف نفسه والأديب المهتمّ وعليه فلا يجب أن نحمّل مشكلاتنا ونواقصنا لهذا المزاج العام!
السوشيال ميديا
كيف ترى تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على الأديب والمثقف؟ وهل غيّرت أدوات الكتابة أم أسهمت في انكشاف الأقنعة؟
أقنعة كثيرة كشفتها شبكات التواصل الاجتماعي، وسقطت أسماء كان لها حضورها المختلف في الذهنيّة التي تتابع المشهد الثقافي بشكل دقيق وقديم!
لاشك أنّ شبكات التواصل كان لها دور كبير في حضور أسماء وتغييب أسماء، وإبراز أسماء.
شبكات التواصل قرّبت البعيد، وبعدت القريب، وأنصفت الكتابة والكتّاب الذين لم تكن لهم منافذ، لدينا أسماء مهمة في الشعر والقصة والنقد والحضور الإعلامي والفضل في إبرازهم والتعريف بهم ينسب لشبكات التواصل الاجتماعي، ولدينا أسماء أخرى كشفتها هذه الشبكات وأظهرتها لنا على حقيقتها!
هناك من يستخدم هذه المنصات للتسويق لاسمه وفعله، وهذا حق مشاع لهم، لكنّني أعيب على بعضهم أنهم لا يبتعدون كثيرًا عن مضاربهم، ويحومون حول الحمى، ويشعرون المتابع أنّهم محور الكون، وهذا خطأ!
وهناك أسماء يتفاعل أصحابها مع المكتوب فيضيفون بالرأي والتعليق والنقد، وهؤلاء وإن قلّ متابعوهم وقلّت المشاهدات إلاّ أنّ تأثيرهم مع الوقت سيكون ذا قيمة وهدف!
أوهام الثقافة
من خلال تجربتك، هل تعتقد أن الصحافة الثقافية ما زالت مؤثرة في توجيه الذائقة العامة أم فقدت دورها أمام المنصات الجديدة؟
الصحافة الثقافية لم تعد صانعة للحدث الثقافي كما كانت، ولا أظنّ أنّ لها تأثيرًا كبيرًا اليوم في صناعة المشهد ولا إعادة تشكيله منصات التواصل تصنع الحدث اليوم وتوجّه صفحات الثقافة، ولا أظنّ أنّ في هذا التوجيه عيبًا إذا أحسنا التعامل معه!
ما يجب أن نقف عليه أنّ الأدباء والمثقفين اليوم يبحثون عن الانتشار والمشاهدات والتفاعل وشبكات التواصل تحقق لهم هذا أكثر من الصحافة، الأديب أو المثقف يتعالى على الصحافة لكنه لا يتعالى على وسيلة تواصل ينشر فيها رأيه أو موقفه ويبوح لها بما لديه من مشكلات وما يعترضه من أحداث!
قناعات بعض العاملين في الصحافة الثقافية تميل إلى التغطيات ونقل الأحداث كما هي مع بعض المجاملات التي تزيد بحسب الاهتمام والدعوات، وهذا لا يضر لكنه لا يصنع حراكًا مهمًا ومتابعًا.
الصحافة الثقافية إن لم تسأل، وتحاور، وتختلف، فليس لحضورها إضافة، ولا لوجودها تأثير، ولا يعتد اليوم بعدد الصفحات ولا مسألة الانتظام و إنما الاعتداد والقياس بالأثر!
هذه رؤيتي وإن كان بعض العاملين في الصحافة الثقافية يسخرون من رؤيتي هذه، ويلبسونها لباس « النميمة الثقافية» وهذا فهم قاصر، ودليل على أنّ هناك فجوة كبيرة بين المشهد المنتظر ومن يعمل فيه!
لدينا في الصحافة الثقافية أوهام كثيرة، أولها اعتقادنا بأنّ المشهد لا يصنعه إلاّ أكاديمي وليس آخرها أنّ سنوات العمل في الصحافة الثقافية مجد ليس علينا مناوشته ولا انتقاده!
المبادرات الثقافية
يراك بعضهم دائم التذمر من المشهد الثقافي وعدم الرضا عن المبادرات الأدبية.. هل هذه رؤية نقدية أم مزاج شخصي؟
أنا لا أتذمر، ولكنني أمارس أبسط حقوقي في إبداء رأيي، والتصريح بوجهة نظري و أفعل كما يفعل الآخرون الذين يهتمون بالمشهد الثقافي ويتابعون ما يدور فيه، ويحاولون التأثير والدعوة إلى التجويد ولا أظن هذا تذمرًا بقدر ماهو نقد ومتابعة!
ما أختلف فيه عن بعض الأدباء والمهتمين أنّ رأيي لا أربطه بدعوة أو تكريم أو مشاركة بل أربطه بالمتابعة، وأقول رأيي، ولا ألزم أحدًا به، وأتقبّل بصدر رحب التعليقات.
لا أسعى إلى الهدم وأرحّب بالبناء ولي الشرف أنني لا أحظر مختلفًا ولا أحذف رأي معترض وإن كان بعيدًا عن القضية أو الموقف الذي أنطلق منه، وأسعى إليه!
الشريك الأدبي
• في ظل تنوّع الجهات الثقافية اليوم: (الشريك الأدبي)، (جمعية الأدب)، (الأندية الأدبية).. هل تفضل إحداها على الأخرى؟ ولماذا؟
أتمناها كلّها، مع تأكيدي على أهميّة الاختلاف في العمل والنشاط، لأسباب منها أنّ لكلّ جهة عشاقًا ومريدين.
فالمتابع الحقيقي لنشاط هذه الجهات يدرك أنّ النشاط اليوم واحد، لأنّ ما يحدث في الشريك الأدبي يحدث في الأندية الأدبية وجمعية الأدب، وتعددها كان هدفه التنوّع، لكنها لم تفعل ذلك أو لم يرد القائمون عليها التفكير خارج المألوف، والعمل على تقديم الممكن والمتاح!
الأندية الأدبية كان لها دورها ونشاطها وإن كانت الطباعة والنشر أبرز نشاط ميزها عن غيرها وهي بحاجة لرؤية جديدة وليس الاكتفاء بتحويلها إلى جمعية بالخروج من الباب والعودة من النافذة!
الشريك الأدبي خيار جيّد، لكن يجب ألاّ يكون الوحيد وأن يُطوّر وكما رأينا في السنوات الماضية هناك اختلاف في نشاطه وتجويد في عمله بدخول دور النشر في هذا الحراك، والمتابع يلحظ الفرق الكبير في هذه السنة عن السنوات الماضية.
بقيت جمعية الأدب وأرى أنّه ينقصها الكثير وأن تعد بما تستطيع!
المشهد الثقافي
كثيرًا ما يُنظر إلى النقد باعتباره سلطة معرفية تُصحّح وتُوجّه. برأيك، ما الذي يُعيق النقد الأدبي اليوم عن أداء هذا الدور بفاعلية داخل المشهد الثقافي؟
غياب الناقد أهمّ عائق اليوم أمام النقد وسلطته المعرفيّة!
القارئ الجيد
في زمن تسارعت فيه أدوات النشر وسقطت معه بعض معايير الجودة، كيف تفرّق بين «الكتابة» كفعل عابر و»الكتابة الإبداعية» كفن عميق؟
أنا لا أحبّ الوصاية على الكتابة والكتّاب،ومؤمن بالنقد،ولدي قناعة أنّ القارئ الجيد يستطيع التفريق بين هذا وذاك، والزمن بعد ذلك كفيل ببقاء الأعمق وزوال العابر!
التغييرات الرقمية والاجتماعية
في ظل التغيرات الرقمية والاجتماعية، ما الذي خسره المثقف السعودي، وما الذي كسبه؟
من خلال المتابعة أظنّ أنّ المثقف السعودي خسر القراءة وكسب الشهرة والحضور!
أنا هنا لا أعمّم، لكنني أشخّص الواقع من خلال ما أتابع، لدينا مثقفون لا يقرأون ولهم نشاط كبير في شبكات التواصل وفي المقاهي وحراك لا ينقطع!
نجومية «مثقف»
هل يمكن اليوم الحديث عن «نجومية» ثقافية في ظل غياب المعايير، وتفوق الحضور الرقمي على المحتوى الحقيقي؟
هناك وهم يعيشه بعض المهتمين بالحراك الثقافي لدرجة أنّ بعضهم يتوهّم أنّه مؤثر،وهذا جزء من البحث عن هذه النجوميّة ولو بالادعاء!
وهذا الوهم إمّا أنه نتيجة الشعور الحقيقي بالضعف، والتعبير عنه في شبكات التواصل إما بالوصف وإما بالادعاء!
فليس غريبًا أن تقرأ في شبكات التواصل من يعرّف نفسه بكلّ شيء وليس لديه شيء!
** **
@ali_s_alq