حين يكتب أحدنا عن الطفولة، فهو لا يسرد أحداثاً منسية فحسب، بل يستدعي عمراً بأكمله، يسترجع الذاكرة مما يعيد إليه نبضه الأول. في هذا السياق، جاءت رواية (ج) للصديق د. عبدالله الزماي التي أهداني نسخة منها للتو، والصادرة حديثًا عن دار رشم للنشر والتوزيع عام 2024م، وجدت هذه الرواية محاولة صادقة لالتقاط تفاصيل زمن شفيف، زمن الطفولة وملامح جيل التسعينات الميلادية.
يشير الغلاف، إلى الطفولة والبساطة والدهشة: طفلان يسيران على شارع ترابي أمامهما سيارات قديمة، أما العنوان المتمثل بحرف واحد «ج» فقد جاء غامضاً بادئ الأمر، لا يبوح بشيء، تاركاً للقارئ حرية الغوص في النص واكتشاف معناه. ثم فيما بعد اتضح أن (جيم) هو اسم للقرية المتخيلة موضع الحدث كما أن تصغير (جويم) هو لقرية مجاورة أصغر منها.
ومع انسياب السرد من الصفحة الأولى وحتى الصفحة السادسة والأربعين، يأخذنا الكاتب الزماي عبر مرحلة الطفولة الصغيرة: القرى، والمدارس، وملاعب الحارة، والبقالة، في نسيج حي من الذكريات التي عاشها بطلا الرواية عبدالله ومحمد، ومن خلالهما نستعيد تفاصيل جيل كامل هو جيل التسعينات الميلادية
كتب الزماي عن استحواذ الأخ الأكبر على الأصغر منه في أمور كثيرة ، كما صور تعب وكدح الأب، وإيثار الأم.
مشاهد لم تُكتب لتُقرأ فحسب، بل كُتبت لتُعاش مرة أخرى. بأسلوب خالٍ من الاصطناع، ينتقل الزماي من مشهد إلى آخر، وكأنه ينفض الغبار عن ألبوم صور قديم،
ولا تنحصر الرواية في توثيق سردي فقط، بل تمتد إلى رسم ملمح وجداني دقيق لفترة زمنية ساهمت في تشكيل وعي جيل بأكمله. جاء السرد ليحتضن التفاصيل الصغيرة التي كانت تصنع يوماً كاملاً من الدهشة.
د. عبدالله الزماي،استطاع أن يمنح القارئ مساحة للتأمل في بداياته، ويوقظ في قلبه صوت الحارة القديمة، ودفء يد الأم، ونظرة الأب المرهق صاحب إليد الحانية.
وحين أنجزت قراءة الرواية إلى الصفحة السبعين، إذ بالكاتب يطلق العنان لقلمه، فيفيض مداد الحرف ويسهب في رسم صورة الأم بما يليق بمقامها الرفيع. صور الأم أيقونة مضيئة تتوهج بالحنان والتضحية، حتماً الكاتب قد وضع على عاتقه أن يخلّدها بكل ما أوتي من محبة وصدق الشعور.
وعند التوغل أكثر في رواية «ج» وجدت أنني أمام عمل توثيقي حيّ، ينبض بذكريات صادقة وأحاسيس لم تُصنع في الخيال، بل سُقيت من نبع التجربة الحقيقية. لقد استطاع الزماي أن يكتب لجيله سيرة توثيقية تتجاوز حدود الحكاية لتصبح وثيقة وجدانية لجيل كامل.
أما على المستوى الفني: لم أجد د. الزماي مراعياً القواعد في بناء الحبكة، لاسيما في تشكيل الأزمة المركزية أو ما يُعرف بـ»العقدة». غير أنه، على نحو فني لافت، لا يقدّم هذه الأزمة صراحة، بل يمرّرها على لسان الشخصية «أبي عبدالله» وهو يروي حادثة قتل، في صفحة 82، (مقتل غازي على يد زيد)؛ مشهداً يحمل شرارة التوتر العميق ثم ما لبث أن انتهت الحكاية
ومع ذلك، فإن الجماليات المتناثرة في الرواية تستحق التوقف عندها، لأنها تؤسس لذائقة سردية خاصة. فالزماي لا يتوانى عن إدماج الشعر الشعبي - كأبيات من الهجيني - ليجعل من النص نسيجاً تتعانق فيه الأصالة مع الحداثة. كما يبهر القارئ بتشبيهات مبتكرة، مثل قوله: «يدخل أبي دائماً كطقسٍ جوي غير متوقع» صفحة 85،وهذه تكشف عن قدرة لغوية تستحضر الصورة من الحياة اليومية، ثم تلبسها ثوب المفاجأة والتقلب العاطفي.
لكن الزماي أرادها توثيقية أكثر من أي شيء آخر، حيث مزج بين عناصر السرد الروائي وتقنيات التوثيق التاريخي تحاول التقاط لحظة حقيقية أو مرحلة زمنية مهمة من خلال أدوات أدبية مشوقة، يستند إلى وقائع حقيقية، مع تقنيات الرواية التقليدية مثل الشخصيات، والحبكة، والوصف، والحوار، لكنه لا يختلق جوهر الأحداث الأساسية.
تضمنت الرواية اقتباسات جميلة مثل ما جاء في ص114 (هكذا هن النساء ينشأن في بيت واحد وفي غرفة واحدة ثم لايعرفن أين ترمي بهن الأقدار). كما أنه أدخل عنصر الفلسفة في بعض المواضع كقوله (لا أعرف لماذا يختار الناس أسماءهم بهذا الشكل).
ثم إن الكاتب حاول إبراز العقدة مجدداً ص114 بقوله (تتدحرج الخلافات في القرية من القمة إلى السفح مثل كرة من الجليد).لكن تلاشت معالم العقدة مجدداً والمبرر هو وجود مذكرات قديمة لمحمد وعبدالله كتبوها صغاراً والذي وجدها هو أبو فهد. المذكرات كل شخص رواها حسب ما يراه وهو حدث واحد لكن رؤية مختلفة من محمد وأخيه عبدالله ثم أبو فهد في الجزء الأخير من الرواية.
** **
- براك البلوي