الجوع أو الصيام يتحول إلى فن هنا كما في قصة كافكا، حيث يقوم رجل بدون اسم بعرض يومي داخل قفص للصيام لأربعين يوماً تحت مراقبة طوال المدة. هذا الفنان الجائع الذي يقوم بالعرض تحت رعاية منظم ومراقبين يكونون من الجزارين، والجمهور من جميع الأعمار يمرون ويشاهدونه، أمامه طاولة عليها رقم لعدد الأيام التي صامها وهو جالس وسط كومة من القش.
هناك توق داخل الفنان ليصوم أطول لكن المنظم يمنعه لأن ذلك سيودي بحياته. ما يرهق الفنان هو أن الناس لا تصدقه حين يؤكد لهم صيامه طوال هذا الوقت، وفي نهاية كل عرض يأتي طبيب وسيدتان ليصطحبوه، حيث يخرج من القفص ويقف معه منظم الحفل يهز هيكله العظمي بانتصار وتصفيق وسط احتفال كبير لنهاية الأربعين يوماً.
ما حدث بعد ذلك أن هذا العرض بدأ بفقد متابعيه، لذا يلجأ الفنان الجائع للقيام بعرضه في السيرك الذي لم يجد منظموه مكاناً للفنان سوى بوضعه وقفصه بجانب أقفاص الحيوانات المتوحشة.
صار الجمهور يمر متجهاً للحيوانات ويحدث أحياناً تجمهر في الممر الضيق لها، فيتوقفون بالصدفة وسط تدافعهم لينظروا إليه ونادراً ما حدث أن أحداً من الجمهور يقف مع أطفاله ليشرح لهم أن هذا الرجل كان يصوم في الزمن الغابر لأيام طويلة فلا يفهمون شيئاً من مجده القديم.
في أحد الأيام يمر أحد منظمي السيرك ويجد القفص خالياً فيسأل موظفيه لم لا يستعمل القفص لوضع حيوانات أخرى، فيجيبوه أنه للفنان الجائع، وحين ينظرون داخل القفص فإنهم لا يروه. يطلب منهم حينها بفتح القفص وحين أزالوا القش عثروا على الفنان ليسأله مدير السيرك: هل ما زلت تصوم حتى الآن فيجيبه بنعم، ثم يطلب منه التوقف، فيجيبه الفنان أنه لم يتخذ الصيام وسيلة عيش إلا لسبب أنه لم يجد شيئاً جيداً يأكله. بعدها يضمر شيئاً فشيئاً ثم يموت ويستبدل الفنان بنمر ذي عضلات كبيرة مما جذب جمهوراً كبيراً أكثر للقفص ليشاهدوا النمر الذي حلَّ محله.
هذه القصة تبدو ملغزة بفكرة الفن الذي لا يفهمه الناس، ولمعاناة الفنان الذي يجتهد حتى الموت ليقدم شيئا.
ومن ناحية أخرى فإن الفنان سيعتمد على البشر لإثبات وجوده على الرغم من نعتهم له بالكذب والاحتيال. إن لديه أنا (ego) لا تتحقق إلا بوجودهم مما قد يودي بحياته من أجلها. فهو يقارب الموت ويظهر شكله بالقصة هيكلاً عظمياً يجلب الشفقة إن لم يكن القرف بحثاً عن القيمة. فذهابه للسيرك ووجوده قريباً من الحيوانات هو شكل من فقده قيمته أو ترميز لتغير الموضة، أو لنمط الحياة الاستهلاكيه التي يتفوق فيها النمر في جذب الجمهور بشكله الفيزيائي physical . ويبدو الفن الذي قد ينظر له بوصفه أصيلاً تذوي قيمته في حياة وتيرتها سريعة ومتدافعة مثل ما يحدث الآن. لكن الفكرة قد تشير إلى نرجسية قوية لدى الفنان الذي يريد اعترافاً من الآخرين بقيمة فنه على الرغم من كل شيء.
لكن اللافت هو قوله أنه لم يتخذ الجوع الصيام وسيلة عيش لأنه لم يجد شيئاً يستطيع أكله. قد يشير ذلك لانتفاء القيمة الحقيقية في الحياة اليومية التي حوله، مما جعله لا يتسامح معها ويصوم عن كل شيء فيها. القصة بقراءتها تظهر السرد الأخاذ لكافكا مع خطأ الترجمة الإنجليزية ربما من الألمانية، لأن الفنان الصائم يبدو اسماً أكثر ملاءمة من الجائع.
** **
أحمد الفليو - كاتب قصة وناقد ثقافي
alflaiw@gmail.com