تصور رواية عبدالله ناجي (منبوذ الجبل) والصادرة في عام 2018م عن دار مسكيلياني، أزمة (أحمد بن يحيى الحداد) الشاعر الشاب الذي يشرع في رحلة قاسية لاكتشاف الذات؛ وذلك بعد أن يبلغ سن الثامنة عشرة، حيث يصطدم بقرار إلغاء القانون الذي سمح لأمه بمنح جنسيتها لأخويه، الأمر الذي يجعل انتقال أخويه لمرحلة جديدة انتماء، فيما يصبح استمراره وحيدًا بجنسية يمنية في أسرة سعودية صورة من صور النبذ التي يتعرض لها، وهي ليست الصورة الأولى، ولن تكون الأخيرة.
يبدأ أحمد رحلة البحث التي يسميها (الركض) بحثًا عن الذات التي تظهر في كامل ضعفها الإنساني، وهي تفقد علاقتها الرسمية مع المكان والأسرة التي لا تعرف سواهما، لكنها تأخذ بعدًا آخر حين تشعر بالانجذاب العاطفي إلى الأنثى، التي يتعدد ظهورها في تلك الرحلة بما يكشف عن تناقض البطل وتمزقه النفسي.
وتعد قراءة الأنثى، وعلاقتها بأحمد طريقًا من طرق فهم الذات، فهي تلقي بظلالها على شخصيته بشكل أو بآخر، وهي الظل الذي يتوازى مع المكان في رحلة الانتقالات المتعددة؛ فقد رافقت أحمد منذ البدء واتسقت معه في مسارات رحلة البحث، وذلك انطلاقًا من المكان المحدد (الجبل) جبل الشراشف الذي سمي بهذا الاسم؛ نسبة إلى النساء اللواتي كن يرتدين الشراشف بوصفها عباءة للستر في زياراتهن المتبادلة، وهو المكان الذي يطل منه على الفضاء الأوسع مكة بحاراتها وشوارعها وأسواقها وتاريخها، ومرورًا بالأنثى (المرأة) التي تتنوع صور العلاقة بها، والتي تتسم في كل مرة بخصوصية ذات أبعاد نفسية واجتماعية تعكس جانب الالتقاء بينه وبين كل أنثى عرفها، وقد ساهمت تلك العلاقات المتعددة في تطور شخصيته ورؤيته للعالم، فكل معرفة يصل إليها تعمق شعوره بالاغتراب المكاني، والاقتراب الذاتي، إضافة إلى أنها تمنحه قوة غامضة يتجاوز بها قسوة الحياة، لذا يمكن القول إن كل شخصية من الشخصيات الأنثوية في الرواية تكوّن جزءًا من شخصية أحمد، هو الذي تستهويه كلمة التكوين: «التكوين هذه الكلمة كثيرًا ما كانت تشدني إلى إيجاد شيء خاص بي، خلق نموذج يصلح لحياة واحدة فقط، ثم لا يعود صالحًا لأي حياة أخرى، إنه أشبه باستعمال شخصي ثم يصبح عديم الفائدة بعد ذلك الاستعمال.
نموذج أصنعه، ثم ألقي به في هذا المحيط الهائل والمزدحم بالأرواح الكونية، وأرى كيف سيعيش؟»، ويبدو أنه يتعامل مع الأنثى بذات الفكرة؛ فلكل أنثى زمنها ومرحلتها ومكانها المحدد، والذي يجعلها غير صالحة للاستمرار بعد انتهاء المرحلة.
وتبدأ علاقة أحمد بالأنثى منذ الصغر؛ حيث تربى بين والدته (غالية) وأخته (فاطمة) التي تسبقه في ترتيب ولادتها مما يجعلها أمًا ثانية، ونظرًا لهذه النشأة بين امرأتين يبتعد أحمد عن عالم إخوته الذكور؛ فحياته تأخذ: «شكلًا آخر يختلف عن الحيوات المحتشدة في منزلنا»، وتبدأ مكتسبات أحمد بالجسد الذي يأخذ ملامحه من والدته:» كنت أشبهها، إنني آخذ كثيرًا من ملامحها، فلي ذات العينين المائلتين إلى اللون الرمادي قليلًا، ولي ذات الأنف المدبب في أعلاه، وذات اللون القمحي، ولي ذات الشعر الفاحم»، وحين يتهالك ذلك الجسد بفعل المرض الذي لازمها لأعوام طويلة تواجهه بالقوة والصبر، وهما صفتان ستمنحهما لأحمد الذي بقي هو ووالده شاهدين على معاناتها مع الألم، وهو الذي أشعل الشرارة الأولى في نيران الكتابة وفجر الصمت بداخله، وحوله إلى سائل أسود يتدفق عبر أصابعه، فأصبح شاعرًا، والشعر هو الجزء الأهم من تكوينه والذي سينمو مع نمو معاناته.
وتواصل أخته فاطمة القيام بأدوار الأمومة التي بدأتها مع والدتها، ثم انفردت بها بعد وفاتها، فهي أقرب إخوته إليه، وهي مستودع أسراره، وأداة الوصل بينه وبين عوالم بيت الجبل التي أدخلته إليها منذ الطفولة حين أشركته في تلك اللعبة الشقية مع (أمل) ابنة الجيران التي ستصبح فاصلة بين كل النساء اللواتي سيلتقي بهن خارج الجبل، لكن فاطمة بحنانها وعطفها لا تملك القوة –مثلها في ذلك مثل أحمد- في تغيير القرارات الأسرية التي يتخذها خالد الأخ الأكبر ضد أحمد، بل وقد تسيء الظن به وفقًا لرواية خالد؛ متجاهلة معرفتها العميقة به، والتي تجعل ذلك السلوك لا يتوافق مع أخلاقياته.
وتبدأ علاقات أحمد العاطفية مع الأنثى بأمل؛ حيث يجد نفسه عالقًا في لعنة ابنة الجيران التي تظل خيطا شقيًا يؤرجحه بين الماضي والحاضر وبين الجبل والفضاءات خارج ذلك المحيط، كما هو الحال معها أيضًا؛ فقد ارتبطا معًا منذ تلك اللعبة، حتى أصبحت أمل رمزًا للخطيئة التي تنتهي بالطرد، فحين كشفت له تلك اللعبة عن إغواء الجسد حكمت عليه مباشرة بالطرد من عالم الطفولة إلى عالم الرجولة، حيث يبدأ شعوره بالاغتراب لعجزه عن التأقلم مع العالم الجديد، وعدم قدرته العودة إلى العالم القديم، ويظن أن علاقته بأمل قد انتهت إلا أنها تعود مرة أخرى على لسان فاطمة حين تحثه على الزواج؛ معللة ذلك بزواج أمل واستقرارها، وانقطاع الرجاء في ارتباطه بها؛ ليؤكد لها أنه لم يجتمع معها يومًا على الحب، وأن تلك الحادثة لا تعدو كونها لعبة وانتهت بانتهاء مرحلتها، غير أن أمل التي طردته من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة، وكانت فاصلة بين مرحلتين عمريتين، تعود مرة أخرى لتكون عاملًا في طرده من علاقة الحب التي تربطه بإيمان، حين يزل لسانه باسمها أمام إيمان، لتعلن هذه الأخيرة نهاية علاقتها بأحمد إثر استشعارها مكانة أمل في قلبه، ليخرج مطرودًا من علاقة الحب الوحيدة التي آمن بصدقها، ومما يضاعف فداحة الحدث أن يتزامن خروجه من هذه العلاقة مع وفاة والدته، التي لم يكد يبدأ بالتعافي من حزنه عليها حتى ظهرت أمل مرة أخرى مقتحمة غرفته مغلقة الباب خلفها، لينفتح بالشقاء والطرد على يد خالد الأخ الأكبر لأحمد:» اخرج من المنزل أيها الشاعر الفاجر، لم يمض شهر على وفاة أمي وأنت تريد أن تدنس بيتها، تريد أن تحوله إلى مبغى، لك ولعشيقاتك!»، ويتكرر ظهور أمل غير المنتظر مرة أخرى؛ بعد أكثر من سبعة أشهر من طرد أحمد ونزوله من الجبل، حيث تشير إليه امرأة على ناصية الرصيف، فيتوقف ليحملها إلى سوق الحجاز كما طلبت، ولكن قبل وصولها تعرّف بنفسها من خلال صوتها الذي يحفظه جيدًا، فيقف طالبًا منها النزول، هذه المرة يجدي عنادها في استمرار حوارها معه، وفي موافقته إياها في الجلوس معًا؛ حيث يعترف بأنها أسدت له معروفًا بهذا الخروج:» كنت أحتاج إلى حياة كهذه حتى أعرف من أنا في هذا المجتمع، وإلى عزلة حتى أكتشف أشياء كثيرة لم أكن لأعرفها لو استمرت حياتي كما كانت في السابق»، في إقرار منه بأن المعرفة تأتي مقابل الألم، لقد أثبت له ذلك اللقاء، وما جرى بعده من اعترافها لفاطمة لتبئته؛ أنها تمتلك قلبًا صادقًا ونقيًا جعلها تسعى لتفعل شيئًا من أجله، وهو ما فعله أيضًا لها بكتمانه سر اقتحامها غرفته قبل ذلك حفاظًا على حياتها وزواجها.
** **
- د. دلال بنت بندر المالكي