يُعدُّ مهرجان الثقافات والشعوب الذي يُنظم سنويًا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مثالاً حيًا على قدرة المؤسسات الأكاديمية في تعزيز التفاهم بين الثقافات المختلفة. هذا الحدث الذي يجمع طلابًا من أكثر من مئة دولة، يقدم فرصة فريدة من نوعها لاكتشاف العوامل النفسية التي تُسهم في تعزيز التعايش والتفاهم بين الشعوب المتنوعة، كما يُعتبر هذا المهرجان في جوهره تجربة اجتماعية تُعزز من قيمة التفاعل الإنساني، حيث يتلاقى الطلبة من خلفيات ثقافية ولغوية متنوعة، مما يوفر بيئة خصبة لدراسة تأثير هذه التفاعلات على الهوية النفسية للطلاب ومدى تأثيرها في تشكيل تصوراتهم عن الآخر.
ومن الناحية النفسية، يُعتبر هذا المهرجان فرصة مثالية لاستكشاف كيفية تأثير البيئة الثقافية في تشكيل الهوية الفردية والجماعية للطلاب، حيث تعكس مشاركة الطالب في عرض ثقافته وموروثاته جانبًا من مفهوم «الهوية الثقافية» التي تعد من العوامل المحورية في النمو النفسي والاجتماعي للإنسان، وهذا ما تؤكده النظريات النفسية الحديثة، حيث يُعدُّ التعبير عن الهوية الثقافية من خلال الأنشطة المجتمعية مثل هذا المهرجان خطوة مهمة نحو تعزيز الشعور بالانتماء والقبول داخل المجتمع الجامعي، وهذا التفاعل الثقافي يسهم في بناء بيئة تعليمية شاملة تحترم التنوع وتُعزز من مهارات الطلاب في التكيف الاجتماعي.
إضافة إلى ذلك، يسهم المهرجان في تحسين العديد من الصور النمطية التي قد تكون قد تشكلت لدى الطلاب حول بعض ثقافات الدول، حيث يتيح لهم التفاعل المباشر فرصة للمعرفة الحقيقية وتجاوز التصورات المسبقة، ويمكنهم أن يتعرفوا عن كثب على الممارسات الثقافية المتنوعة للعديد من دول العالم، بعيدًا عن أي تحيزات أو مفاهيم مغلوطة.
ومن منظور علم النفس الاجتماعي، فلا يُعدُّ المهرجان مجرد عرض ثقافي أو ترفيهي فحسب، بل هو أيضًا فرصة لاحتكاك الطلاب بعضهم ببعض في بيئة طبيعية تُحفز على التفكير النقدي وتوسيع الأفق الفكري، كما إن التفاعل المباشر مع ثقافات مختلفة يعزز من قدرة الطالب على فهم كيف يتشكل الفرد في بيئته الاجتماعية والثقافية، ويساعده في تطوير مهاراته الاجتماعية، مثل الاستماع الفعّال، والتفاوض، والتكيف مع التنوع، وهذه المهارات تعتبر من العوامل الأساسية في بناء الشخصية النفسية المتوازنة.
علاوة على ذلك، يُمكن النظر إلى مهرجان الثقافات والشعوب باعتباره فرصة لتحليل تأثير العوامل الثقافية في تكوين علاقات اجتماعية صحية؛ إذ يُظهر هذا المهرجان كيف يمكن أن يؤدي التفاعل المستمر بين أفراد من ثقافات متباينة إلى تعزيز الشعور بالتآزر والتعاون، بدلاً من العزلة أو التفرقة، وهذا يتماشى مع المبادئ النفسية التي تؤكد على أن التفاعلات الاجتماعية المبنية على الاحترام المتبادل تؤدي إلى تحسين الصحة النفسية والرفاهية.
ومع ذلك، فلا يمكننا إغفال تأثير مثل هذه الفعاليات على عملية الإدماج النفسي للطلاب الدوليين في البيئة الجامعية، فالإدماج لا يعني فقط دمج الأفراد في النسيج الاجتماعي، بل هو عملية نفسية معقدة تتضمن إعادة تشكيل التصورات الذاتية والآخرين، ومن خلال هذا المهرجان، يتعلم الطلاب كيفية التأقلم مع بيئة جديدة واحترام التنوع، مما يعزز من مهارات التكيف النفسي والقدرة على مواجهة التحديات النفسية التي قد تنشأ بسبب التغيرات الثقافية والاجتماعية.
إلى جانب ذلك، فإن مشاركة الطلاب في هذا النوع من الفعاليات يمكن أن تساعدهم في تعزيز شعورهم بالثقة والقدرة على مواجهة المواقف الاجتماعية المعقدة، وبالتالي، يُسهم المهرجان في تحسين الصحة النفسية بشكل غير مباشر من خلال تعزيز الشعور بالانتماء إلى جماعة أكبر تُمثل وحدة تنوع ثقافي وفكري.
وفي النهاية، يُعدُّ مهرجان الثقافات والشعوب بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بمثابة تجربة حياتية يتفاعل خلالها الطلاب من مختلف أنحاء العالم، ويتعرفون على ثقافات الآخرين في بيئة تعليمية مفتوحة ومحترمة، ومن منظور نفسي، فهذا المهرجان ليس مجرد فعالية للاحتفال بالتنوع الثقافي، بل هو منصة تعليمية تسهم في تكوين هوية نفسية واجتماعية متكاملة، وتعزز من مفاهيم التسامح والقبول، التي تُمثل حجر الزاوية في بناء مجتمع أكاديمي متنوع ومتماسك، أي أنه أكثر من مجرد احتفال، وأكثر من فعالية طلابية فحسب، باعتباره فرصة للتغيير النفسي والاجتماعي، وفرصة أيضًا لتعزيز فهمنا لكيفية التفاعل مع الآخر بطرق صحية ومثمرة.
** **
- د.هلال الحارثي
@al_mosaily