بينما كنت أتبادل أطراف الحديث مع صديقة، ابتسَمت فجأة وقالت: «أنتِ يا نورة عندك تطلع إلى معرفة المواضيع والقصص والربط بينها والتحليل والبحث عن خلفيات كل موضوع يمر عليك.» هذه الكلمات البسيطة استوقفتني وبقيت تتردد في ذهني، وجعلتني أتأمل وأتساءل عن الفضول هل هو أمر شخصي يخص بعض الناس فقط، أم طبيعة عامة في جميع البشر؟ وهل يقتصر على ما يلامس حياتنا أو شخصياتنا مباشرة، أم يمتد ليشمل قصص الآخرين وتجاربهم؟ وثمة من يرى اقتصار الفضول على ما يمس شخصيته.
الفضول نزعة بشرية، وميول طبيعي إلى حب الاستطلاع، بل يكاد يكون تساؤلًا فطريًا يدفع الإنسان إلى طرح الأسئلة واكتشاف كل جديد منذ طفولته وحتى شيخوخته. فلا يمكن أن يعيش دون السؤال والبحث، فالفضول يفتح أبواب العلم والمعرفة، يقول أنتوني بومبليانو: «الفضول الفكري قوة عظمى» قوة تبني العقول وتثري الأرواح، بعيدًا عن التطفل أو تجاوز الحدود.
نحن بطبيعتنا ننجذب إلى الحكايات، ونبحث عن أسرارها، وتدهشنا تفاصيلها الصغيرة، نتابع المسلسلات والأفلام الواقعية، نقرأ السير الذاتية؛ بدافع الفضول لمعرفة ما وراء الأحداث. فالفضول هنا بمثابة الجسر الذي يصل بين الذات والآخر، بين ما يخصنا وما يخص غيرنا. نحب أن نعرف كيف يعيش الآخرون حياتهم، كيف يواجهون تحدياتهم ويتغلبون عليها، وما خلف نجاحاتهم أو إخفاقاتهم. ليس من باب التطفل، بل رغبة في التعلم والمقارنة، ونشر المعرفة والفضائل، وفرصة للتأمل العميق.
الفضول منع من قتل شهرزاد ألف ليلة لمعرفة بقية القصة المشوقة، وحمل ابن بطوطة على الرحلة والمغامرة والتنقّل بين البلدان لاكتشاف عوالم أخرى، ودفع القراء إلى قراءة كتاب الأغاني لكشف أسرار الحياة الثقافية والاجتماعية في العصر العباسي، ورغب الإنسان -كما قال ابن خلدون في مقدمته- في معرفة أحوال الأمم السابقة واستنتاج العبرة، وبهذا، يصبح الأدب تجسيدًا حيًا للفضول البشري، الذي يفتح لنا أبوابًا على عوالم جديدة، ويتيح لنا فرصة العيش في أكثر من حياة؛ لأن كل قصة نقرؤها أو نسمعها هي حياة إضافية نكتشفها بدافع الفضول.
فالفضول المحمود هو ما يجعلنا نبحث عن الحقيقة وننصت للحكايات. ونتابع القصص حتى النهايات، ونبحث عن المعاني في الكلمات، وقد يختلف الناس في درجة فضولهم أو في نوعية ما يثير اهتمامهم، لكن الأصل واحد: الإنسان بطبعه فضولي، يسعى دائمًا لاكتشاف ما وراء الستار. لم يكن قول صديقتي وصفًا لشخصي وحدي، بل وصفًا لطبيعة البشر جميعًا، حيث يظل الفضول هو المحرك الذي يدفعنا للاكتشاف العلمي والإبداع الأدبي، ويقودنا إلى التعلّم والتواصل وفهم العالم من حولنا.
وفي المقابل التحذير من الفضول السلبي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وفي الأمثال العربية: «من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه»، وهو تحذير مباشر يبين أن الفضول غير المنضبط، أو التطفّل على حياة الآخرين، أو تتبع عوراتهم، والتجسس عليهم، يصبح عبئًا لا قيمة له، فلا بد من ضبط النفس وترويضها باحترام خصوصية الآخرين، حتى لا يقودنا الفضول السلبي إلى الهلاك.
وهكذا يتبيّن لنا أن الفضول رغبة في المعرفة: فيكون محمودًا إذا كانت هذه المعرفة علمًا نافعًا ودافعًا إلى البحث والقراءة والتعلّم، وإلى محاولة فهم كيف تعمل الأشياء وكيف تُركّب، الذي يجعل من يحصل على هذه المعرفة يطرب لحصوله عليها ويبهج بثمرتها، ويكون الفضول مذمومًا إذا كان يتلصّص إلى معرفة أسرار الناس، ويكون بمعنى الزائد الذي لا قيمة له ويجر صاحبه إلى الهلاك، فليكن فضولنا طريقًا إلى نور المعرفة، لا حملًا من فضول الكلام والتطفل.
في زقاق ضيق من أزقة المدينة القديمة، كان هناك صندوق خشبي صغير مغطى بالغبار. اقترب منه رجل، فتحه ببطء، لكن لم يمكث طويلًا حتى سقط أرضًا وفارق الحياة. ومنذ تلك اللحظة، ظل الصندوق مطبقًا على سره، تاركًا فضولكم يتساءل: إلى أين سيأخذكم؟
** **
د. نورة بنت عبد الله بن إبراهيم العمر - أستاذ الأدب والنقد المساعد بجامعة الملك سعود
@nora_7055