في ظلّ التطورات المتسارعة التي يشهدها عصرنا، وانتشار الاحتيال المالي بأساليبه المتجددة، باتت الرسائل الاحتيالية أكثر خُبثًا في تضليلها واستهدافها للأفراد والمؤسسات. فالمحتال لم يعد يكتفي بالاختراقات التقنية، بل أصبح يوظِّف لغةً محكمة، وأسلوبًا لغويًا دقيقًا؛ يدفعُ الضحية للتنفيذ، تحت وطأة الضغط والخوف.
ومن هنا تبرز أهمية علم اللغة الجنائي كأداة ذكية تسهم في الكشف عن الخداع اللغوي وفهم الآليات التي يستغلها المحتالون. فمن خلال تحليل الأسلوب، المفردات، بنية الجمل، نبرة الخطاب، يمكن التعرّف على طرق الاحتيال واستجلاء النوايا الحقيقية وراء تلك الرسائل المضلِّلة.
ولا يقتصر دور علم اللغة الجنائي على رصد المؤشرات اللغوية العامة؛ بل يمتدّ إلى تحليل الخصائص الأسلوبية الدقيقة التي تميِّز الرسائل الاحتيالية عن غيرها من الرسائل، مثل: تكرار الأوامر المباشرة، والإلحاح الزائد، والتهديد المبطن، وخلق الإحساس بالاستعجال، إضافة إلى الاستعانة بضمائر معيَّنة لإيهام القرب، أو ادعاء السلطة؛ لفرض الامتثال، أو محاكاة الأساليب الخطابية للمؤسسات الحكومية والمصرفية؛ لإضفاء طابع المصداقية وهي عناصر تُعدّ من أبرز الأدوات التي يستغلها المحتالون؛ لدفع المتلقي لتنفيذ دون وعي. كما يسهم هذا العلم في تحديد البُنى اللغوية المتكررة المرتبطة بأنماط الاحتيال، وذلك عبر دراسة السمات اللهجية، ومؤشرات الخلفية الثقافية، وبصمات الأسلوب التي تُستخدم كأدلة لغوية في التحقيقات، ويعكسُ هذا الدور تزاوجًا بين المعرفة اللغوية والتقنيات الرقمية، مما يتيح للجهات المعنية بناء أطر تشخيصية منهجية تساعد في التنبؤ بالرسائل الاحتيالية وتصنيفها وفق معايير دقيقة وموثوقة.
ختامًا، يُعدّ علم اللغة الجنائي مجالًا حيويًا في مواجهة الاحتيال المالي المعاصر، لما يوفره من أدوات تحليلية تسهم في الكشف عن الخداع اللغوي، وتمكين الأفراد والمؤسسات من التعامل بوعي أكبر مع التهديدات الرقمية. ومع تعاظم دور اللغة في فضاء وسائل التّواصل الاجتماعي، تتأكد الحاجة إلى توظيف هذا العلم بصفته عنصرًا أساسيًا في منظومة الأمن الإلكتروني، ودعامةً معرفية تساهم في بناء مجتمع أكثر وعيًا وحصانة ضد الخداع الرقمي.
** **
- دلال محمد الشديدي