عن دار نشر أفالون كومب Avallon الجزيرة Combe الفرنسية، صدر كتاب «ما بعد الحقيقة: بلاغة الكذب… والتّمثلات» (post-vérité : la rhétorique du mensonge… et des représentations) في شهر نوفمبر 2025 في حوالي 164 صفحة، للكاتب أيمن منير Ayman Mounir، أكاديمي وكاتب ومترجم مصرِي، تخرَّج في جامعة لِيون 2 بفرنسا ومنها حصل على الدكتوراه، صدرت له مجموعة من الكتب تأليفا وترجمة.
يستفتح المؤلف عمله بسؤال عميق الدلالة: ما الذي تستطيع اللغة أن تفعله حيال مواطن الشبهات التي تحوم حولها الكلمات؟ انطلاقا من هذا التساؤل الجوهري، يبني المؤلف أطروحته عبر مقاربة سيميائية وحجاجية تسعى الى تفكيك فضاء الخطاب السياسي والأدبي، بوصف هذا الفضاء حقلا من العلامات الدالة التي لا تعبّر عن الواقع فحسب، لكنها تسعى إلى تبني رؤية تبريرية تعيد تشكيل الواقع وإنتاجه وفق مسارات مدروسة بعناية تهدف إلى استثمار أساليب وآليات الإقناع البلاغية من أجل توجيه المتلقي والتأثير في استجابته العاطفية والمعرفية.
يشير الكاتب إلى أنّ مصطلح «ما بعد الحقيقة» برز بقوة عام 2016، للدلالة على تحوّل عميق في طبيعة المناخ السياسي الذي أفضى إلى صعود ظواهر مؤثرة على الصعيد الدولي: فمنذ انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية (الفترة الرئاسية الأولى) الى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (Brexit)، ومنذ انتشار المعلومات المضللة والأخبار الزائفة (fake news) الى هيمنة الثقافة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، تراجعت الحدود الفاصلة بين ما ينتمي إلى العالم المادي وما يُنتَج عبر التصورات الذهنية.
ضمن هذا السياق، تتم اعادة تشكيل العالَم وفق منطق جديد يسهم بفاعلية في إنتاج خطابات سياسية وأدبية تتوجه إلى جمهور واسع من القرّاء والمتابعين، سعيا إلى استمالتهم والسيطرة على أدمغتهم ومن ثم إدارة وعيهم والتحكم في خياراتهم.
يشتمل الكتاب على جزأين، يستعرض الجزء الأول من كتاب «ما بعد الحقيقة: بلاغة الكذب… والتّمثلات» الاستخدام المعاصر للغة في المجال السياسي بوصفها أداة للتأثير والإقناع والاستقطاب والسيطرة، وليس مجرّد نظام لتعزيز التواصل الإنساني وتعزيز استمرارية الفعل الاجتماعي والسياسي.
ويلاحظ المؤلف، أيمن منير، أن الحقائق لا تُقدَّم بوصفها معطيات موضوعية، ولكنها تستخدم كبناء لغويّ تتداخل من خلاله البلاغة مع الحجاج من أجل انتاج خطاب يزاوج بين الإقناع والتضليل ويتمتع بقدرة على قيادة المتلقي والتأثير عليه، بما يُفضي إلى تحويل اللغة من جسر للتفاهم المشترك إلى وسيلة للهيمنة الناعمة أو حتى الخشنة، والى أداة لصناعة صور ذهنية متخيّلة ليس لها ما يطابقها من الواقع المشاهد، الا أنها، في نهاية المطاف، تخدم مقاصد المتحدث في التسويق لمنظومته القيمية التي قد لا تنسجم مع منظومة القيم والمبادئ للأفراد والمجتمعات المستهدفين بهكذا خطاب.
إنّ تحليل بلاغة النصوص الكاذبة، ضمن هذا الجزء، وما يتّصل بها من استراتيجيات لإدارة الأزماتّ، يكشف عن جوهر اللغة ذات الطابع السياسي في الديمقراطيات المعاصرة، حيث تفقد الكلمة وظيفتها كوسيط محايد، لتغدو بعد ذلك أداة للمناورة والخداع الخطابي الذي يدغدغ مشاعر وعواطف المتلقي.
فالخطاب السياسي المعاصر لم يعد يكتفي بتسمية الأشياء بأسمائها المجردة، لكنه يصوغ الواقع ذاته ويعيد ترتيب ملامحه ويشكّل الوعي الجمعي بما يجب أن يعلمه القراء وما ينبغي إزاحته من دائرة الإدراك الجماعي أو دفعه إلى الهامش أو حتى محوه من ذاكرة المتلقي.
أما الجزء الثاني من كتاب «ما بعد الحقيقة: بلاغة الكذب… والتمثلات»، فيستعرض فضاء السرد الروائي باعتباره أداة للذاكرة النقدية والوعي الجماعي، ويكشف عن حجر الزاوية لعدد من الأعمال الأدبية تنطلق من الزوايا الخفية والمآسي الصامتة التي لا تنحصر فقط في بنية سردية يغذيها خيال الروائي وتصنعها الوقائع التاريخية السياسية، لكنها تمتد الى مجموعة متنوعة من الدلالات التي تنتمـي إلـى حقـل العلامـات باعتبارها محفزة لفكر الروائي وملهمة لقريحته ومفجّرة لخياله الذي يعمل على تحليل الأزمات والقضايا المجتمعية ومزجها بواقع يعيشه أبطال هذا العمل الأدبي أو ذاك.
ويشير المؤلف، أيمن منير، الى أن آلية بناء النصوص الأدبية، في هذا الجزء، تعتمد على صياغة نسيج لغوي يمنح هذه النصوص رؤية تبريرية لأدوات انتاج دلالات النص السردي بما تحمله من رصيد تاريخي اجتماعي، ومن ثم فهي تعمل على تشييد عالم خيالي يوهم القارئ بواقعيته ويدفعه إلى تصديقه ضمن علاقة خفية تمزج بين ثنائية الحقيقة والكذب، وهي العلاقة التي تتجه إلى الاعتراف بالعجز عن ترميم الحقيقة الغائبة.
أما عن الحمولات الدلالية التي انطلقت منها مسارات الأحداث الروائية في هذا الجزء، فقد توقفت عند أحداث بعينها و غاصت في أعماق البنية السردية ونسجت مزيجا من المتخيّل والواقعي بعد أن تحولت اللغة إلى فضاء أصبحت فيه الحقيقة غريبة عن بيئتها.
ختاما: انطلاقا من دراسة سيميائية وحجاجية، سعى المؤلف، في كتاب «ما بعد الحقيقة: بلاغة الكذب… والتمثلات»، الى تحليل فعل انتاج الخطاب السياسي والأدبي بعد أن تحولت اللغة إلى أداة لإعادة التحكّم في فعل التّلقي وفقا لأهداف محدّدة وضمن فضاء اتسعت فيه الفجوة بين الحقيقة وتمثّلاتها.
في هذا الكتاب، شدّد المؤلف على أن الكلمات المستخدمة في كلا النصين السياسي والأدبي جاءت مغلفة بأقنعة بلاغية، برز من خلالها النسيج اللغوي للنص كأنه مرآة مشروخة حجبت المعاني خلف ظلال من الزخارف اللفظية وتحوّلت معها اللغة إلى ساحة صراع بين ما تُعلنه الكلمة وما تُضمِره.
فهل تظل الكلمة، في زمن الأقنعة البلاغية، أداة للكشف عن الحقيقة، أم أنها ستسقط في فخاخ ما بعد الحقيقة؟
** **
- د.أيمن منير