هذا اسمٌ غريب الأصل، مُنكَرُ اللفظ، لم يشتهر أنه تَسَمَّى به غير رجل واحد، كان من مَحتِد عِزٍّ ورئاسة، وكان إلى ذلك ظريفا يَصلُح لجِلَاسِ الملوك، فكان يَصحَب الخليفة الوليدَ بنَ عبد الملك أميرَ المومنين (86-96) فيُضحكه ويَأنَسُ به، والْتَبَسَ أمرُه قديما بأمر حَمِيمٍ له، فكان مِن ذلك أنّ خَبَرًا لأحدِهما نُسِبَ إلى الآخَر غَلَطًا، وهو ما تُوضحه هذه الورقة وتَرجِعُه إلى الصواب إن شاء الله تعالى.
جاء في نَسَب مَعَدٍّ واليَمَن الكبير لأبي المُنذِر هشامِ بنِ محمدِ بنِ السائبِ الكلبي حيثُ وَلَّدَ أبا الزَّبّانَ الأصبغَ بنَ عَمْرِو بنِ ثعلبةَ بنِ الحارثِ بنِ حِصنِ بنِ ضَمْضَمِ بن عَدِيِّ بنِ جَنَابٍ الكلبي في نسخة خزانة الإسكوريال ذات الرقم 1698 التي حُقّق عليها (ص387 بترقيم المخطوط): «ومن بني الأصبغ بن عمرو: زَبّانُ بن الأصبغ، كان شريفا، وهو جَدُّ عبدالعزيز بن مَرْوانَ، أمُّه: لَيلَى بنتُ زَبّان، وحطيم بن الأصبغ كان فارسا ناسكا شاعرا، وسعيد بن الأصبغ كان من أمنع عُذْرِي في زمانه، وكان شاعرا، وسعد بن الأصبغ، ... وسعي بن زيان إليه البيت، ووثيل بن حطيم بن الأصبغ، وزفلات بن حكمة كان يصحب الوليد بن عبد الملك بن مروان ويضحكه»، كذا فيه، وقوله: «سعي» هكذا بتَعْرِيَة طَرَفَيه من النقط، وقَرَأَهُ د. ناجي حسن في تحقيقه (2: 569، عالم الكتب 1425/ 2004م): «وسعيد بن زبان إليه البيت، ووَثِيل بن خُطَيم بن الأصبغ، وزملاتُ بن حَكَمَة»، وكذلك قَرَأَهُ (أو نَسَخَه!) د. علي عمر في تحقيقه جمهرة النسب (2: 346-347، مكتبة الثقافة الدينية: 1431/ 2010م) وعِندَه أن نَسَب مَعَدٍّ واليَمَن الكبير جُزءٌ من الجمهرة، شَرَحَ ذلك وقَطَعَ به في مقدمة تحقيقه (1: 6-8) ولذلك أَلحقَه بها في طبعته، وقراءةُ الدكتورين غيرُ صواب، فصِحّة قِراءةِ النّصّ: «وشُعَيْثُ بن زَبّانَ إليه البيتُ، ووَثِيل بن حطيم بن الأصبغ، وزِقْلابُ بن حَكَمَة كان يَصحَبُ الوليدَ بنَ عبدِ الملك بن مروان ويُضْحِكه»، وكذلك قرأه الأستاذ محمود فردوس العظم في تحقيقه لنَسَب مَعَدٍّ واليَمَن الكبير (2: 323)، فأما شُعَيث فقد ضبطه الإمام أبو الحسن الدارقطني في «باب شُعَيْب وشُعَيْث» في المُوتَلِف والمُختَلِف (3: 1358، طبعة دار الغرب الإسلامي|3: 236 طبعة دار الأصول العلمية بتركية)، قال: «شُعَيْث بن زَبّان: كان يَصحَبُ الوليد بن عبد الملك ويُضحِكُه، قرأتُ ذَلك في أصل أبي بكر أحمد بن أبي سَهْل الحُلْوَاني عن أبي سَعِيد السُّكريّ عن محمدِ بنِ حَبِيب عن هِشام ابن الكلبي»، كذا فيه، ونَقَلَه عنه الأميرُ أبو نصر ابنُ ماكولا في إكماله (5: 60)، ويُستفاد منه ضَبطُ شُعَيْث، أما سائر الكلام فغَلَطٌ، نَشَأ -فيما يبدو- عن انتقالِ نَظَرٍ من زبان في نسب شُعَيْث إلى زَبّان في نسب زقلاب، فأَسْقَطَ ذلك الانتقالُ ما بين الاسمين وجَعَلَ آخرَ الكلام متعلقا بأولهوأصلُ أبي بكر الحلواني الذي ذكر الدارقطنيُّ هو نُسخَةٌ من جمهرة ابن الكلبي، (وسيَأتي قريبا عند بحثِ كلام الصاغاني فَضْلُ بَيانٍ فيه تعزيزُ صِحّةِ أن ما نَقَلَه الدارقطني عن ابن الكلبي هو من جمهرة النسب لا مِن نَسَب مَعَدٍّ واليَمَن الكبير) ونسخةُ الدارقطني هذه كتبها بِيدِه العالمُ الأديبُ النسّابةُ أبو بكر أحمد بن أبي سَهلٍ محمدِ بنِ عاصمٍ الحلواني المتوفَّى سنة 333 ورواها عن قريبِه أبي سعيد السُّكَّري عن أبي جعفرِ ابنِ حبيبٍ عن هشام ابن الكلبي، وأكثرَ الدارقطنيُّ النقلَ عنها في كتابه وصَرَّحَ مرارا بأنها بخط الحلواني، وانتقالُ النظر الموضَحُ لا نَعْلَم على سبيل القطع مِن أي الرجلين وَقَع، أمِن الدارقطني أم من الحلواني، ومَن كان على ذكر من قول النديم في ترجمة الحلواني في الفهرست (1: 245، مؤسسة الفرقان: 1430/ 2009م): «وخطُّهُ في نهاية القبح، إلا أنه من العلماء» لم يَبعُد عنده أن يكون من الدارقطني، والله أعلم بحقيقة الحال، غير أن الحُكمَ بوقوعِه ظاهِرٌ جَلِيٌّ لِمَن تأمل كلامَ ابن الكلبي، لأنه صَرّح بالتفريق بين شُعَيْثِ بن زَبّان وابن أخيه زِقْلاب بن حَكَمَة بن زَبّان، فأَبانَ أن شُعَيْثًا سَيِّدٌ من سادات كلب، وقال فيه: «إليه البيت» يعني بيت بني الأصبغ وشَرَفَهم، وأن أخته لَيلَى أمُّ عبدِ العزيز بنِ مروان الأموي، كما أوضَحَ أن الذي كان يصحب الوليد ويُضحكه هو زِقْلابٌ، والذي أفاد ضَبطَ زِقْلاب وصِلَةَ نَسَبِه بزَبّانَ هو الرَّضِيُّ الصاغانيُّ في تركيب: (زقلب) في كتابَيْه: العُباب الزاخر (2: 197، تحقيق د. تركي بن سهو العتيبي، مركز البحوث والتواصل المعرفي، السعودية، الطبعة الأولى: 1443/ 2022م) والتكملة والذيل والصلة (1: 151 مطبعة دار الكتب 1970م)، ولفظُه لفظُ ابنِ الكلبي، وجمهرةُ ابنِ الكلبي من مَصادِر الرّضِيّ التي نَصَّ عليها في مقدمة العُباب، و نَسَبُ كلبٍ من القِسْم المفقود منها، لم يَظهر إلى اليوم، ويُقَوّي تصحيحَ كونِ الصاغاني والدارقطنيّ قبلَه إنما أَخذَا ذِكْرَ شُعَيثٍ وزِقلابٍ من الجمهرة لا من نَسَب مَعَدٍّ واليَمَن الكبير أن الصاغاني وَصَل نَسَبَ زِقلابٍ بزَبّانَ، وليس ذلك في نَسَب مَعَدٍّ واليَمَن الكبير فقد تقدم أن النصّ فيه: «وشعيث بن زَبّان إليه البيت، ووثيل بن حطيم بن الأصبغ، وزقلاب بن حَكَمَةَ كان يصحب الوليد»، فلم يَرفَعْه إلى زَبّانَ، فدَلّ نَقلُ الصغاني على أن النص في جمهرة النسب: «وزقلاب بن حَكَمَةَ [بن زَبَّـان] كان يصحب الوليد»، ومِن هذا جازَ لنا أن نحكُم بأن الدارقطني أو الحلواني انتَقَلَ بَصرُ أحدهما من زَبّان في نسب شُعَيْث إلى زَبّانَ في نسب زِقْلاب، وتَشهَدُ على ذلك أيضًا حاشية وقعت في مختصر جمهرة النسب للمبارك الغسّاني في المخطوطة المُحْرَزَة بخزانة راغب باشا بتركية ذات الرقم 999 (ص138/ظ)، ونص ما فيها: «كذا في أصل حاشية المختصر: زِقلَابُ بنُ حَكمَة بن زبّان بن الأصبغ كان شريفا وهو جدُّ عبد العزيز بنِ مروان، كان يصحب الوليد بن عبد الملك ويضحكه»، والذي يعنينا هنا هو رفعه نسب زقلاب، أما قوله: «وهو جدُّ عبد العزيز بنِ مروان» فخطأ واضح، فالمقصود بهذا زَبّان بن الأصبغ لا سِبطُه زقلاب، ولكن اختَلَطَ أمرُه على الكاتب.
هذا ولم يَذكُر الصاغاني أصل اشتقاق زقلاب ولا معناه، وهذا التركيب: (زقلب) أَغْفَلَتْه كتب اللغة التي اطّلَعْتُ عليها، ونَقَلَ هذه الفائدة العزيزة عن الصاغاني من غير زيادة المَجْدُ الفيروزابادي في قاموسه في تركيب: (زقلب)، والزَّبِيدِي في تاج العروس (3: 23، طبعة الكويت)، وبها يُصلَحُ ضَبطُ اسمِ الرجل ونَسَبُه وحالُه، ويُعلَمُ مِن هذا كله أن شُعَيثًا لم يكن مُضْحِكًا للوليد، وأن السياق الصحيح لكلام الدارقطني أن لو كان قَال: «شُعَيْثُ بن زَبَّان كان من أشراف كلب، وإليه بيت بني زَبّان بن الأصبغ، وهو خال عبدِ العزيز بن مروان»، أو ما يُؤدِّي هذا المعنى، ويُعلَم منه أيضًا أن الصاغاني الْتَزَمَ عبارة ابنِ الكلبي فأحسَنَ، وأمّا المَجْدُ فغَيّرها -على عادته طلبا للاختصار- بما حَسِبَ أنه لا يُغَيّرُ معناها فقال: «زِقْلابُ بن حَكَمَة كسِرْبالٍ: هازلُ الوليد بن عبد الملك»، وهذا غير مُطابق تمامَ المطابقة لكلام ابن الكلبي، فهو مُوهِمٌ أن زقلابا كان عَمَلُه إضحاكَ الوليد على نحو ما يُطلِقُ عليه أهلُ عَصرِنا: مُهَرّج البلاط (court jester) وهذا غيرُ دقيق، فالأقربُ في مِثلِه في كَرَم مَحتِدِه وشَرَفِ بيتِه أنه كان جليسا مُؤنِسًا ظريفَ المُعاشَرة قريبَ المَحَلّ من الوليد لذلك، فالتزامُ عبارة ابن الكلبي أَوضَحُ وأَوْلَى.
والقومُ (آل الأصبغ الكلبي) من عَرانِينِ كَلْبٍ وأهلِ السِّطَة والشرفِ فيهم، صَرَّح بذلك ابن الكلبي وغيرُه، ومِن إصْهَار الأشراف إليهم أن أختَ شُعَيثٍ الأخرى -واسمُها مُشتَقٌّ من اسمه-: الشعثاء بنت زَبّان بن الأصبغ كانت عند إسحاقَ بنِ الأشعث بن قيس الكندي فلها منه عبدُ الله بن إسحاقَ الذي خرج مع ابنِ عَمِّه عبدِ الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحَجّاج بن يوسف، ثم فَرَّ يريد اللَّجَأَ إلى ابنِ خالته عبدِ العزيز بن مروان في مصر، فأُدرِكَ قبل أن يَصِلَ إليه وقُتِل، ذكر ذلك البلاذري في أنساب الأشراف (القسم 4 الجزء 3، ص98، تحقيق رضوان السيد: 1441/ 2019م)، وقِصّتُه بتفصيل أوسعَ في العفو والاعتذار للرَّقّام البَصري (2: 507، بتحقيق عبد القدوس أبو صالح، الطبعة الأولى) وفيه أن اسمَ أُمِّه: البيضاء بنت زَبّان بن الأصبغ، وما حكاه البلاذري أَوْلَى بالصحة. وكانت بنتُ شُعَيثٍ -واسمُها مُشتَقٌّ من اسمه أيضًا-: أمُّ شُعَيث بنتُ شُعَيث بن زَبّان عند عُمرَ بن عبد العزيز فلَهُ منها ابناهُ: مَرْوانُ وإبراهيمُ، ذكر ذلك البلاذري في أنساب الأشراف (القسم 4 الجزء 3، ص411، تحقيق رضوان السيد: 1441/ 2019م)، وابنُ سعد في الطبقات الكبير (7: 324 طبعة الخانجي الأولى) إلا أنه فيهما: شعيب بالباء، تصحيف شعيث بالثاء، وعند ابن سعد: أم عثمان بدل أم شعيث.
وفَخْرُ ابنِ بنتِهم عبدِ العزيز بن مروان بولادتهم واعتزازُه بها واضِحٌ في تَسْمِيَتِه بِكْرَه الأصبغَ بن عبد العزيز باسم جدِّ أمِّه، فكان عبدُ العزيز يُكْنَى أبا الأصبغ به، وسَمّى ابنًا له آخَرَ: زَبّانَ بِاسم جَدِّه لأمه، وأورثَ ذلك أهلَ بيتِه فَسَمَّى الأصبغُ بنُ عبد العزيز بِكْرَه زَبّان، وكان يُكْنَى به أيضًا، كما كان جَدُّه الأصبغُ بن عمرو يُكْنَى أبا زَبّان، فهو على هذا سَمِيُّه وكَنِيُّه، وسَمَّى عُمرُ بنُ عبد العزيز ابنًا له زَبّان. وكان مُدّاحُ عبدِ العزيز بن مروان يَذكرون لَيْلَى بنتَ زَبّانَ في مدحِهِم له، تَزَلُّفًا إليه لعلمهم بأنه يُحب ذلك ويُعجِبُه، بل حُكِي عنه أنه قال: «لا أُعْطِي شاعِرا شيئا حتّى يَذكُرَها في مَدْحي»، منهم ابنُ قيس الرّقَيّات، وأيمنُ بنُ خُرَيم القُلَيْبِي، وجَرير، والعَجَّاج، والأحوصُ، والنُّصَيْب، وكُثَيّرُ عَزَّةَ، وقد أكثرَ هَذانِ مِن ذِكرها، وكذلك خُوطب ابنُه عُمَرُ في أمداحِهِ بابن ليلى، وربما فَسّرَها شُرّاحُ الشِّعر بجدّتِه لَيْلَى الكلبية، مع أنه قد يجوز أن يكون أُرِيدَ بها ليلى أمُّ عاصم بنتُ عاصم بن عمر بن الخطاب وهي أمُّه التي قامت عنه، وعسى أن لا تكون تسميتُها بليلى توهما قديما، فإن ظاهر كلام الزبيريَّيْن وابن سعد أن اسمها كنيتُها.
وزَبّان المذكور هو بالزاي المعجمة والباء الموحدة ضَبَطَه ابن حبيب في مختلف القبائل (ص7، طبعة فستنفلد) وأبو أحمد العسكري في شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف (ص478، طبعة مصطفى البابي الحلبي)، وفي تصحيفات المحدّثين (ص633 بتحقيق محمود ميرة، الطبعة الثانية: 1438/ 2017م)، والدارقطني في المُوتَلِف (2: 1078 طبعة دار الغرب الإسلامي|2: 551 طبعة دار الأصول العلمية بتركية)، والوزيرُ أبو القاسم ابن المغربي في الإيناس (ص157 طبعة الشيخ حمد الجاسر)، وابنُ ماكولا في الإكمال (4: 115، 117) فمَن بَعدَه.
وقد بَوَّبَ ابنُ عساكرَ في تاريخ دمشق (27: 653، بتحقيق د. رياض عبد الحميد مراد، طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق) لشُعَيث بن زَبّان هذا ونَقَلَ بسنده كلام أبي الحسن الدارقطني وابنِ ماكولا من غير أن يزيد شيئا، ووقع في المطبوع: زيان بالياء، تصحيف زَبّان بالموحدة، ولعله من الطباعة، ولم يترجم لزقلاب، فهو مُستَدرَكٌ عليه في باب الزاي، مع الإشكال الذي بينتُ في ترجمة شُعَيثٍ التي نَقَلَ. وكذلك نقل كلامَ ابن ماكولا في شعيث -مع تصرف طفيف يَختَصِرُ العبارة- ابنُ حَجَرٍ في تبصير المنتبه (2: 785، بتحقيق علي محمد البجاوي، طبعة المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر بالقاهرة 1964-1967م)، وعن تَبصيرِ ابنِ حَجَرٍ نقله الزَّبِيدِي في كتابَيْه: تاج العروس (5: 282)، والتكملة والذيل والصلة (1: 435، طبعة مجمع اللغة العربية بالقاهرة: 1406/ 1986م)، وفي هذه الثلاثة الأواخر كلِّها: رَيّـان براء مهملة وياء مثناة من تحت، تصحيف زَبّـان بالزاي والباء، والعلمُ عند العليم الخبير سبحانه.
** **
محمد بن محمدي - الشارقة