حاورته - سارة العَمري:
أثار مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة نقاشًا في الأوساط الثقافية حول مشاركة جمعية الفلسفة السعودية في الإعداد، إلى جانب تساؤلات عن غياب بعض الأسماء التي ارتبط حضورها ببدايات الحراك الفلسفي في المملكة؛ إذ جاء هذا الجدل متزامنًا مع اتساع الاهتمام بالفلسفة وتحولها إلى مساحة نقاش أوسع داخل المشهد الثقافي المحلي، وفي خضم هذه الأسئلة، حاورت «الثقافية» خالد الصامطي، مدير عام الإدارة العامة للأدب في هيئة الأدب والنشر والترجمة، للوقوف على رؤية الهيئة للمؤتمر، ومعايير بناء برنامجه العلمي، وقراءة موقع الفلسفة ضمن التحولات الراهنة في الثقافة السعودية.
مؤتمرنا من المحلي للعالمي
* ما رؤية الهيئة في ترسيخ المؤتمر منصة فعّالة لتعريف العالم بالقدرات الفلسفية السعودية؟
منذ انطلاق النسخة الأولى للمؤتمر ونحن نهدف إلى أن تكون المملكة مركزاً ثقافياً رائداً، مع التأكيد على أهمية الفلسفة كأحد أبرز مجالات الثقافة، وقد شهدنا تزايداً في الإقبال على المؤتمر والأنشطة الثقافية المرتبطة بالفلسفة، وتحرص الهيئة سنوياً على تسليط الضوء على المختصين السعوديين في هذا المجال، مع ضمان مشاركتهم جنباً إلى جنب مع ضيوف دوليين مرموقين على الصعيدين العربي والعالمي.
الفلسفة بين جيلين
* كيف توازنون بين ظهور الأصوات الفلسفية الشابة وضمان حضور الأسماء المخضرمة في المؤتمر؟
يفتح المؤتمر كل عام باب استقبال المقترحات البحثية لجميع الباحثين في الفلسفة من الجيل الشاب والمخضرم، ويستقبل في كل دورة ما بين 100 و200 مقترح بحثي، تقوم اللجنة العلمية الخاصة بالمؤتمر، والمكوّنة من أساتذة جامعيين من المملكة وخارجها، بمراجعة المقترحات بشكل مجهول لضمان الحيادية، ثم الرد بالقبول لكتابة الأوراق الفلسفية الكاملة، ليتم تحكيمها تحكيماً علمياً وفق نماذج معدّة مسبقاً، واختيار المجتازة منها للمشاركة في البرنامج العلمي للمؤتمر، كما تقوم اللجنة العلمية بترشيح متحدثين من كبار الشخصيات الدولية والسعودية ممن لديهم باع طويل في المجال الفلسفي، ونتاج فكري ومعرفي وبحثي رائد، ومنشورات سنوية في هذا المجال، شريطة أن يقدم المتحدث ورقة علمية تتوافق مع عنوان ومحاور المؤتمر للعام، ويخصص المؤتمر مساراً إضافياً للمشاركة في البرنامج العلمي عبر شركائه المحليين والدوليين، إذ يسمح لكل شريك بترشيح عدد من المتحدثين لإبراز الأفراد المنتمين لمظلته، بحيث يكون للشريك الحرية الكاملة لترشيح أي ضيف، بشرط أن يتوافق ما يقدمه مع عنوان ومحاور المؤتمر.
الشراكة موضع سؤال
* طُرح نقد حول عدم إشراك جمعية الفلسفة السعودية في الإعداد، ما أسباب ذلك؟ وهل هناك توجه لتعزيز التعاون معها مستقبلًا؟
إن العلاقة بين الهيئة وجمعية الفلسفة السعودية هي علاقة شراكة إستراتيجية منذ النسخة الأولى للمؤتمر، حيث تعد الجمعية شريكاً أساسياً في كافة مراحل الإعداد والتنظيم، وعلى مدار السنوات، واصلت الهيئة دعمها المستمر لجمعية الفلسفة السعودية، سواء من خلال إشراكها الفاعل في الأنشطة ذات الصلة بالفلسفة، أو عبر توفير منصات لعرض إنجازاتها وأعمالها. كما سعت الهيئة إلى توقيع اتفاقية بين جمعية الفلسفة السعودية والاتحاد الدولي لجمعيات الفلسفة.
وفي هذه الدورة، كانت الجمعية حاضرة من خلال جناح تعريفي متميز يعكس أنشطتها وجهودها المستمرة في إثراء المشهد الفلسفي، إضافة إلى مشاركتها في البرنامج العلمي للمؤتمر، حيث شارك 12 ضيفاً ومتحدثاً من الجمعية في ثلاث جلسات علمية.
أما بشأن النقد الذي طرح حول عدم إشراك الجمعية في الإعداد المبكر للمؤتمر، فمن المهم التأكيد على أن الهيئة تؤمن بقوة الشراكة والتكامل بين المؤسسات المحلية باختلافها، وتسعى دائمًا لتعزيز التعاون مع كافة الأطراف المعنية، وقد شاركت جمعية الفلسفة في النسخ السابقة من خلال عضوية ممثلها في اللجنة العلمية المسؤولة عن التحضير وتحكيم واختيار الأوراق العلمية المتقدمة للمؤتمر، وبالتأكيد ستشارك مستقبلاً في نسخ قادمة، فالهيئة تسعى دائماً إلى تكثيف التعاون مع جمعية الفلسفة السعودية، بما يعكس توجيهات القيادة الرشيدة بضرورة تعزيز دور المؤسسات الثقافية وغير الربحية المحلية.
ميزان الاختيار
* يرى البعض أن المؤتمر تجاهل أسماء أسهمت مبكرًا في تأسيس المشهد الفلسفي السعودي، ما تفسير هذا الغياب؟ وما معايير اختيار المتحدثين؟
نود التأكيد أن المؤتمر منبر مفتوح لاستعراض العديد من الأصوات الفكرية والتنوع الفلسفي في المملكة، وقد حرصنا في هيئة الأدب والنشر والترجمة على إشراك مجموعة من المتحدثين من مختلف الأجيال الفكرية من خلال نسخ المؤتمر الخمس، ويؤخذ في الاعتبار عند اختيار المتحدثين معايير واضحة تتضمن مستوى الخبرة الأكاديمية، والمساهمات البحثية في المجال الفلسفي، وكذلك تنوع الموضوعات المطروحة.
وفي إطار البرنامج العلمي، وبعد حصر الأوراق العلمية المتقدمة للمشاركة في المؤتمر، يتم الحرص على توازن الاختيارات للأسماء المشاركة بين الأصوات الشابة التي تُسهم في تجديد الفكر الفلسفي، وبين الأصوات المخضرمة التي تمتلك رصيداً معرفياً غنياً في هذا المجال، إضافة إلى التنوع الجغرافي والثقافي في مساحة الاختيار، فهذا مؤتمر دولي، ويتحتم التنويع في خلفيات وثقافات الأسماء المختارة وذلك لضمان جودة وتعدد وجهات الأوراق العلمية المطروحة، كما نود أن نوضح أنه قد وُجهت الدعوات لجميع المهتمين في الفلسفة، بما فيهم الأسماء المخضرمة التي كان لها دور مهم في إرساء الأسس الفلسفية في المملكة.
اتساع الأثر
* ما أبرز الإضافات النوعية التي قدمتها الدورة الخامسة مقارنة بالدورات السابقة؟
الدورة الخامسة من مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة شهدت العديد من الإضافات النوعية التي تميزت بتوسيع نطاق المؤتمر وزيادة تأثيره على مختلف الأصعدة، حيث تجاوز حضور المؤتمر 7 آلاف زائر، وهو الرقم الأعلى منذ انطلاقه، مما يعكس تزايد الاهتمام بالفلسفة في المملكة وحرص المجتمع الأكاديمي والجمهور على المشاركة في الفعاليات الفكرية، كما استضاف المؤتمر أكثر من 70 متحدثاً من المملكة ومن مختلف دول العالم، ما أضاف تنوعاً فكرياً وعلمياً للمناقشات ورفع من مستوى الحوار الفلسفي، وشهدت الدورة تعزيز التعاون مع أكثر من 20 جهة أكاديمية وغير أكاديمية فاعلة في مجال الفلسفة، مما أتاح تبادل الخبرات والمعرفة وفتح آفاقاً جديدة للتعاون المستقبلي في هذا المجال، واستقبل المؤتمر ما يقارب 212 ورقة بحثية، اختير منها الأفضل لتُنشر في منشور علمي محكّم، مما يعكس التزام المؤتمر بتقديم أبحاث علمية رصينة تسهم في تطوير الفكر الفلسفي، إضافة إلى ذلك، نُظمت مناظرات بين طلاب من أكثر من 10 جامعات سعودية انتهت بفوز أحد الفرق المتنافسة بجائزة مالية مجزية، وهو ما أتاح للطلاب فرصة لتطوير مهاراتهم الفكرية والتعبيرية في بيئة أكاديمية تنافسية، كما تم تنظيم تفعيلات مصاحبة متنوعة، شملت جناحاً خاصاً للأطفال واليافعين أدارته مؤسسة بصيرة المتخصصة في تعليم التفكير الفلسفي للأطفال، شهد زيارة أكثر من 700 طفل خلال أيامه الثلاثة. وبذلك، يمكن القول إن الدورة الخامسة من المؤتمر قد حققت قفزة نوعية في تعزيز حضور الفلسفة في المملكة، وأسهمت في إثراء الفكر الفلسفي وتنمية حوار علمي بين الأجيال المختلفة.
فلسفة مستدامة
* ما خطط الهيئة لتعزيز حضور الفلسفة في المملكة؟ وهل هناك مبادرات قادمة يمكن الإعلان عنها؟
تعمل الهيئة على تعزيز حضور الفلسفة في المملكة بشكل مستمر، حيث إن الفلسفة من المجالات الثقافية ذات الأهمية الكبرى في رؤية المملكة للمستقبل، ويستمر مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة كأحد المشاريع الرئيسة التي تتيح منصة سنوية للمفكرين والفلاسفة من مختلف أنحاء العالم للتفاعل، وتبادل الأفكار، والتعاون في مختلف مجالات الفلسفة، كما يشكّل نقطة انطلاق للعديد من المبادرات الثقافية والفكرية التي تهدف إلى نشر الفلسفة وتعميق الوعي الفلسفي في المجتمع السعودي، إضافة إلى ذلك، تعمل الهيئة على تمكين الجمعيات والقطاع الثالث والشركاء الأدبيين من تقديم مئات الدورات والندوات وورش العمل الفلسفية، إلى جانب الدورات التدريبية المتخصصة في الفلسفة المقدمة عبر برنامج أنت التدريبي. كما تركز الهيئة من خلال إستراتيجيتها الخمسية المقبلة على تعزيز حضور الفلسفة في المملكة، عبر مجموعة من المبادرات التي تهدف إلى توسيع نطاق الفلسفة وتعميق فهمها في المجتمع، خاصة لدى الشباب، إضافة إلى دعم الأبحاث والمشاريع الأكاديمية، وتقديم الفرص المناسبة للأفراد المهتمين بالفلسفة للنهوض بالقطاع الثقافي ككل.
خارطة الوعي الفلسفي
* كيف تصفون موقع الفلسفة اليوم ضمن خارطة الثقافة السعودية؟ وهل تمضي نحو تأثير أوسع في الحراك الفكري المحلي؟
تعد الفلسفة جزءاً من خارطة الثقافة السعودية، حيث تشهد تطوراً تصاعدياً في السنوات الأخيرة، بعد أن كانت في السابق تخصصاً مستقلاً، فإنها اليوم تشق طريقها لتصبح جزءًا من الخطاب الثقافي والفكري الأوسع في المملكة، وتمر الفلسفة في السعودية بمرحلة انتعاش ثقافي، حيث تزداد الاهتمامات الفكرية والأنشطة الثقافية المرتبطة بها بشكل ملموس، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح من خلال تنظيم المؤتمرات والندوات الفكرية، مثل مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة، الذي أصبح حدثاً سنوياً يجذب المفكرين والفلاسفة من مختلف أنحاء العالم، حيث تطرح العديد من القضايا الفلسفية عبر النقاشات والندوات والفعاليات، ولا سيما الموضوعات المرتبطة بمفاهيم الحرية، والعدالة، والهوية، والمجتمع، وهي قضايا تتقاطع مع التحديات المعاصرة التي تواجه المملكة. وتسهم الفلسفة بشكل مباشر في إثراء الحوار الفكري، وتقديم أدوات تحليلية تساعد على فهم أعمق للتطورات الاجتماعية والثقافية. إضافة إلى ذلك، يبرز اهتمام متزايد من الأجيال الشابة بالفلسفة، وهو ما يعكس حاجة المجتمع إلى أطر فكرية جديدة وأدوات نقدية تتماشى مع العصر الرقمي والتغيرات السريعة.
يكشف هذا الحوار أن الجدل المحيط بمؤتمر الرياض الدولي للفلسفة لا ينفصل عن اتساع حضور الفلسفة نفسها داخل المشهد الثقافي السعودي؛ فبين أسئلة التمثيل، وآليات الاختيار، وحدود الأسماء، تتبلور الفلسفة اليوم بوصفها مساحة حوار مفتوحة، تتجاوز القاعات الأكاديمية إلى أسئلة المجتمع، وتؤكد انتقالها من الهامش إلى قلب النقاش الثقافي العام، وفي هذا السياق، يبرز مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة بوصفه منصة لتعدد الأصوات والاتجاهات، تعكس تحولات الثقافة السعودية وسعيها إلى ترسيخ حضور فكري فاعل على المستويين المحلي والدولي.