أنهيتُ في هذه الأيام قراءة رواية «بهو الفندق» للروائي السعودي براك البلوي، قراءةً لا تكتفي بسطح الحكاية، ولا ترضى بما يقوله النص عن نفسه، بل تُمعن النظر فيما يقوله رغماً عنه. فالقارئ النقدي-كما أتصوره- لا يصغي إلى اعترافات النص فحسب، بل ينصت إلى هفواته، وإلى ما يتسرّب من بين شقوقه دون قصد أو وعي.
ومن هذا المنظور، الذي يجاور النقد البنيوي ويطمئن إليه ذوقي، كونه نقدا يستعير صرامته من العلوم الطبيعية، يُنظر إلى النص باعتباره كياناً مستقلاً عن نية مؤلفه، بنيةً مغلقة على تناقضاتها، مشحونةً برموزها، ومثقلةً بدلالات قد تفلت حتى من وعي الكاتب نفسه. ومن هنا، أزعم أنني وقفتُ على رمزية الفندق، ليس في متن الرواية فحسب، بل في عنوانها أيضًا.
وتتجلى جمالية «بهو الفندق» -في قراءتي- في طابعها الرمزي، ولا سيما في توظيف «الفندق» كونه فضاءً جامعًا بين زمنين: ماض وحاضر لا يكف عن الإلحاح، فالفندق هنا ليس مكانا عابرا، بل استعارة كثيفة: مكان يستضيف الغرباء، كما تستضيف الذاكرة حبّا قديما، وضيفًا يطرق باب القلب بعد طول غياب. وكأن الروائي البلوي يقول، بلغة رمزية شفافة:
إن الماضي لا يموت، بل يعود إلينا متأنقا، في أبهى ثياب الحنين. حين ساق القدرُ لقاءً عابراً بين طارق وزهراء في بهو الفندق، ذلك الفضاء الذي اتخذه الروائي براك البلوي مسرحا لأحداث روايته.
هنا بدأ المكان وكأنه بطلٌ صامت يوازي الشخصيات حضورًا ودلالة. فالفندق لم يكن مجرد إطارٍ عابر، بل فضاءً مفتوحًا على الاحتمال، متحررًا من اسم مدينة أو حدود جغرافيا، ليصبح مكانًا مطلقًا يحتضن الحكاية ويمنحها بعدها الإنساني الشامل.
وفي هذا السياق، يغدو عنوان الرواية امتدادا طبيعيا لرمزيتها، إذ يلتقي العنوان والمكان والمحتوى في وظيفة واحدة: استقبال العابر، سواء كان شخصا أو ذكرى أو عاطفة مؤجلة.
أما النهاية، فقد جاءت مرضية لمن يأنسون بالنهايات السعيدة؛ إذ تمنح القارئ راحة عاطفية، وتغلق الدائرة الوجدانية بإحساس من الطمأنينة السردية. فالقارئ -مهما ادّعى الواقعية- يبحث في نهاية المطاف عن شكل من أشكال العدالة، حتى لو حُرم منها في الواقع.
غير أن الرواية، على ما فيها من جمال، تقع في مأزق «شيوع الفكرة» وتكرار الحبكة التقليدية: حب، فافتراق، فلقاء، فإحياء لما ظُنّ أنه مات. وهي حبكة مألوفة، تحتاج -على حد تعبير رولان بارت- إلى «لذة النص»؛ أي إلى انحراف أسلوبي، ومباغتة سردية، تكسر التوقع وتقاوم النمط.
فالتسارع في زواج الشخصيتين بعد اللقاء أضعف منسوب التوتر الدرامي، واختصر مساحة الصراع التي كان يمكن أن تمنح النص عمقه الإنساني.
ولا أخفي أنني، بوصفي قارئًا، كنت أتطلع إلى معاناة أشد كثافة، تبرز التناقضات الاجتماعية والطائفية والوجدانية. كان يمكن -مثلًا- تعميق صراع البطل بين واجبه الأسري وزواجه الجديد، وإبراز رفض الزوجة للتعدد ليس من منطلق واحد، بل من ازدواجية معقّدة: أنوثة غيورة، وحساسية طائفية متحفظة. مثل هذا الصراع كان سيمنح النص نبضا دراميا أصدق، وواقعية أكثر إقناعا.
وكذلك موقف الابنة من زواج أمها، الذي عُولج بسلاسة لا توازي ثقل الفكرة. فلو أتيح للسرد أن يغوص أعمق في هذه المنطقة النفسية، لبلغت الرواية كثافة التجربة الإنسانية، بحيث لا تكون الحكاية مجرد حدث، بل اختبارًا أخلاقيًا وثقافيًا للمجتمع.
أما التبرير الذي يقدمه صديق البطل لنجاح الزواج الحالي - بكونه حدث في عام 2022 - فيبقى تبريرا عاديا، لا يبلغ مداه الدلالي الكامل، خصوصا للقارئ غير السعودي، الذي قد لا يلمس حساسية المفارقة بين زمن مضى وحاضر مشرق. ولو أنني كنت أتمنى لو جرى توظيف هذا البعد الاجتماعي (الزواج بين مذهبين وإن لم يشير لهما الكاتب) بوصفه أداة لكشف تحولات الوعي الجمعي بعد رؤية 2030، حيث بدأت تلك التحيزات المذهبية تتراجع في المجتمع السعودي.
في المحصلة، كانت تجربة قراءة رواية «بهو الفندق» ممتعة، غير أن مقدمة الرواية، «سطور من رماد»، رفعت سقف التوقع إلى حدٍ جعلها معيارا أقيس به ما تلاها.
لقد جاءت تلك المقدمة وكأنها نص قائم بذاته، مكثف، مشحون، يَعِد بأكثر مما يسمح المتن لنفسه بأن يحققه.
** **
- د.فهد المرشدي