وقفت على آثار أجدادي في رحلة وجدانية عدت فيها إلى جذوري لتنفتح أمامي أبواب التاريخ والذاكرة. في نزهة إلى روضة سدير، حيث التراث تحتضنه الطبيعة، وإذ بي أمام مشهد يفيض بالأصالة والحنين.
بين الأزقة الضيقة والبيوت العتيقة، والأبواب التي حُفر عليها أسماء العوائل، وكأنها شواهد تحفظ الهوية وتروي قصص الأجيال. شاهدت تلك الأبواب القصيرة بزخارفها البسيطة، والمثلثات المنقوشة على الجدران، بدت لي كرموز حضارة صاغها الأجداد بيدهم، لتبقى شاهدة على عراقة المكان.
ورائحة التراث والأصالة تفوح في كل زاوية، عبق التراث يتسلل إلى الروح. رائحة الطين القديم، القناديل المعلقة، والنقوش التي تزين الجدران، كلها كانت تحملني إلى زمن آخر لم أعشه، ولكني شعرت وكأنني أتنفس أصالةً لا تزول، وأعيش لحظة امتداد بين الماضي والحاضر.
رغم رحيلهم، أثرهم باق حيًا لا يبهت، والحنين إليهم لا ينطفئ، الأطلال ما زالت تنبض بالحياة، تخبرنا عن حضارة وأصالة عريقة ضاربة في الجذور، تمنح كل من زارها شعورًا بالاطمئنان والحنين. الوقوف على هذه الآثار ليس مجرد تأمل في الماضي، بل هو استدعاء لقيم الأصالة، والوفاء، والارتباط العميق بين الإنسان وأرضه. رأيت بيت الماضي وبيت السريّع، ووقفت عند ديوانية البابطين، حيث كانت الأرواح تجتمع في دفء اللقاءات وصدق الود. ولم أنسَ أن أمرّ على منزل أجدادي العمر وبيت العيبان أبناء العمة، وبيوت الكثير من العوائل العريقة التي صنعت تاريخ هذا المكان. كل بيت كان يحمل قصة، وكل اسم كان يختزن ذاكرة، وكل جدار كان يروي حكاية من حكايات الأصالة لا يطويها الزمن.
ومن بين تلك المشاهد وقفت عند مسجد مشرفة، الذي ظل شاهدًا على صلوات الأجداد واجتماعاتهم الروحية، يبعث في النفس سكينة خاصة لا تشبه أي سكينة أخرى، مئذنته الوضاءة، أعمدته البسيطة، وهدوء ساحته يحكون حكايات أجيال مرت من هنا وتركت خلفها أثرًا لا يزول، وبعده اتجهت إلى سد السبعين ومياهه المتدفقة، وكأنه شريان حياة يروي الأرض ويمنحها الخصب، ويعيد للزائر شعور الارتباط العميق بالطبيعة والإنسان.
بين تلك الأطلال، تخيلت أفراحهم، أصوات الأطفال في الأزقة، ضحكات الكبار وهم يستقبلون المناسبات والأعياد. رأيت في خيالي مجالسهم، واحتفالاتهم، ودفء العلاقات التي جمعتهم. رحلوا بأجسادهم، لكن آثارهم بقيت لتروي حكاية مجتمع متماسك، وحياة مليئة بالبساطة والبهجة.
ولا نغفل عن الجهود البارزة التي شهدتها روضة سدير أسهمت في حفظ تاريخها وإبراز إرثها الثقافي، حيث بادر عدد من أبناء المنطقة -مشكورين- إلى توثيق معالمها ورواياتها الشفوية وصيانة ما تبقى من آثارها القديمة. ومن بين هذه المبادرات ديوانية البابطين في روضة سدير، التي أصبحت مركزًا ثقافيًا مفتوحًا للباحثين والمهتمين، إذ قدمت مخطوطات ووثائق نادرة، وقدّمت معلومات تاريخية قيّمة أسهمت في تعزيز الوعي بالتراث المحلي وإحياء الذاكرة الجماعية للمنطقة.
وفي ظل ما تزخر به روضة سدير من تاريخ ضارب في القدم، ومعالم تنبض بروح المكان، تبرز الحاجة إلى مشروع توثيقي جاد يعيد جمع خيوط الحكاية من مصادرها المتناثرة. فالمعلومات المتعلقة بالروضة، على غناها وتنوعها، ما تزال موزعة بين بطون الكتب القديمة، والروايات الشفوية، والوثائق المحلية، دون أن يجمعها مشروع علمي واحد يقدّم صورة متكاملة عن هذا الموطن العريق.
ومن هنا تأتي الدعوة إلى إطلاق مشروع معرفي شامل يُعنى بحصر كل ما كُتب عن روضة سدير، واستعادة ما ورد عنها في المصادر التاريخية والبلدانية، وتوثيق الروايات التي ما زالت محفوظة في ذاكرة أهلها. وجمع سير أبناء الروضة ممن تقلدوا مناصب قيادية أو نالوا درجات علمية عليا، وإبراز إسهاماتهم في مسيرة التنمية، ليكونوا جزءًا من السردية التاريخية التي تعكس دور روضة سدير وأبنائها في محيطهم الاجتماعي والوطني. اليوم، تتوافر مجموعة من الكتب التي يمكن أن تشكّل اللبنة الأولى لهذا المشروع، لما تقدمه من معلومات ووثائق وصور، ومن أبرزها: روضة سدير – هذه بلادنا من تأليف عبد الله بن محمد أبابطين، روضة سدير عبر التاريخ: من نشأتها إلى حاضرها المشرق من تأليف أحمد بن عبد الله الدامغ، روضة سدير: تراث ومستقبل من تأليف عبد الحميد بن عبد العزيز العليان، ويعالج التراث العمراني والاجتماعي للروضة برؤية تحليلية حديثة وغيرها الكثير. إن جمع هذه المصادر، إلى جانب الجهود البحثية الميدانية، يمكن أن يثمر كتابًا موسوعيًا يقدّم روضة سدير في صورتها الكاملة: تاريخًا، وتراثًا، ورجالات، ومعالم، ليكون مرجعًا للباحثين، وهدية معرفية للأجيال القادمة، وشاهدًا على مكانة الروضة في الذاكرة الوطنية.
الوقوف على الأطلال في روضة سدير هو لقاء بين الحاضر والماضي، بين الإنسان وذاكرته الجمعية. تجربة روحية تعيدنا إلى الجذور، وتذكرنا أن الحضارة ليست فقط في المباني، بل في القيم التي تركها الأجداد، وفي الحنين الذي يسكن القلوب كلما مررنا بأزقتهم وأبوابهم.
** **
د. نورة بنت عبد الله العمر - أستاذ الأدب والنقد المساعد بجامعة الملك سعود
@nora_7055