صدرت رواية «شجرة عارية» للكاتبة العنود سعيد عن نادي تبوك الأدبي عام 1444هـ/ 2023م، وتدور الرواية حول موضوع رئيس وهو حياة سارة التي عاشت في أحضان أبوين متفاهمين يحيطانها بالسلام والأمان، تلك الشجرة العارية التي مرّت بتجربة إنسانية أليمة تتراوح بين الحب والوفاء والتضحية والظلام والأمل، جمال البدايات وقسوة الأيام، قدّمت التضحيات وتنازلت عن الأحلام مضطرة من أجل يومٍ جميل الإشراق تأمل أن تُشرق شمسه عليها، ولكن تمر الأيام والسنون ولم تشرق شمس ذلك اليوم عليها.. وفي الوقت ما بعد الضائع.. يجتمع الاثنان اللذان ما كان اجتماعهما هذه المرة إلا على ألم جديد، وبعدما رحل العمر وذبُل.
شخصيات الرواية تتصدرها بطلة الرواية سارة، التي تعيش في منزل والديها حيث الوئام والسلام، تعيش في عالم مفعم بالآمال الجميلة، وتتفاعل مع العالم الخارجي الموحش، فينتج عن ذلك التفاعل معرفة من يعمّق الآلام والأوجاع في نفسها، فتصبح شجرة تقاوم الرياح بأغصانها وأوراقها الجميلة في سردية محزنة من الوجع والكآبة والصدمات، ولا زالت تقاوم وتضحّي من أجل الأمل المنشود بكل شيء، حتى يُطل عليها ذلك الأمل وكأنه يكاد أن يتحقق في يوم من الأيام، ولكن.. للزمن أقدارٌ أخرى..
من الشخصيات الرئيسة في الرواية أحمد صاحب الكاريزما الذي ينشد النجاح والتقدّم يومًا عن يوم في حياته، أحمد الذي اعتراه البؤس بعد ذلك معها، وهند الصديقة الوفية وسلمى منبع الشرور والأحقاد. وعدد من الشخصيات الثانوية الأخرى.
تتمحور حبكة الرواية حول انقلاب حياة الشخصية الرئيسية سارة، وهبوب عواصف الآلام والمتاعب عليها من كل حدب وصوب، فتصبح رمزًا للتضحية والإيثار في سردية الرواية، تمرّ على حياتها سلسلة من الأحداث تتعقّد شيئًا فشيئًا، فتصيب هذه العُقد كل من يمت لها بصلات، وتتميز هذه العقدة بأنها ذات أحداث حزينة وكئيبة وتقطر دمًا وألمًا، أحداثُ تُثير العواطف والأشجان، آلام تترى تتوهج وتعلو وتحبس الأنفاس حتى النهاية.
تتبع الحبكة -نوعًا ما- بناءً تقليديًا له بداية ووسط ونهاية واضحة، وتركّز على تدفّق الأفكار والأبعاد النفسية والإنسانية والوجودية، مفعمة بالمشاعر والأحاسيس، وهي بحق يمكن أن تكون تجربة إنسانية تدعو القارئ للتأمل المليء بالعواطف النفسية والإنسانية الجياشة.
بدأ هذا الانقلاب في أحداث الرواية وبداية تعقُّد الأحداث بخسارة أحمد لكل ثروته وسقوطه في الديون مع شركته التي أفلست، وأمواله التي ذهبت هباءً، ولكن سبب هذه الخسارة الفادحة التي قلبت الأحداث رأسًا على عقب قد لا يبدو منطقيًا بشكل كبير؛ فكيف لخسارة مناقصة واحدة – وإن وضع كل ثقله فيها - أن تفعل كل ذلك وتقلب أحداث الرواية كلها؟ ولعلنا نجد عذرًا للكاتبة بأنها أرادت ذكر النقطة الرئيسية لبداية الخسارة – المناقصة - ولم تتطرق بشكل تفصيلي لتبعات هذه الخسارة من خسائر أموال وعقود وغيرها من الأمور التي كانت متشابكة مع العقدة الأولى، فبادرت بذكر خسارة المناقصة دون غيرها من تفاصيل أخرى تفاعلت طرديًا مع هذه الخسارة بشكل دراماتيكي وأدت لهذا الانقلاب الكبير في أحداث الرواية.
استخدمت الكاتبة أسلوبًا لغويًا شاعريًا واضحًا في بناء هذه الرواية، وكانت الرواية حافلة بالتراكيب اللغوية الجميلة، واللغة السهلة الواضحة، تضمنت عددًا من المجازات والصور البلاغية والتشبيهات البليغة والاستعارات المكثفة في توصيف أحداث الرواية، وفي توصيف الحزن والألم والفراق والموت، وجاء الوصف بليغًا بتوظيف تلك الصور البيانية.
أما الرمزية فوظفتها الكاتبة في وصف الأماكن ومرور الزمن والليل الكئيب الطويل والأحداث والمشاعر التي تختلج في النفس، وفي وصف الخسران وليالي الفراق.
ومن ذلك الوصف العميق والاستخدام لهذه التشبيهات والاستعارات البليغة العميقة قولها: «في كل مرة تستفيق سارة على خيبات مريرة تتخطى كل توقعاتها، تمزّقها رياح اليأس وتُرهقها مشاعر الانتظار لذلك الغائب البعيد، ما أصعب أن تتظاهر بالفرح وفي داخلك بركان من الألم، ما أصعب أن تمنح الوفاء لأشخاص ظننتهم يومًا أقرب الناس إليك؛ لتكتشف في النهاية أنهم أول الراقصين على أحزانك».
ظهر الوصف في هذه الرواية بلغة شاعرية وتراكيب بلاغية عميقة تُعمّق الإحساس بهذه الأحداث التراجيدية في الرواية، فجاء وصفًا بليغًا مثيرًا لعواطف وإحساس النفس البشرية، من ذلك الوصف الشاعري البليغ: «هناك حكايات لا أحد يشعر بمدى مرارتها إلا من يدرك قراءة ملامحها، يملأ الحزن قلبها، تُحدّث نفسها غير قادرة على نسيان الماضي واستيعاب فكرة الارتباط برجلٍ آخر: لم أرغب في مثل هذه النهاية خوفًا من أن أبقى خائنة في نظرك للأبد، قدر هذا الحب يا أحمد تلك الخيبة، أودّ أن ألتقيك كلقائنا الأول صدفة بلا ميعاد، أن أتأمّل بريق عينيك، وملامح وجهك الدافئة، أودّ أن ألتقيك اللقاء الأخير، وأن أ رتوي من نهر حبك وحنانك قبل أن أرحلَ وترتحل بعد غيابك كلُّ ملامح الفرح من طريقي».
وتتجلى تراجيديا المأساة أيضًا في المقطع التالي: «اسمعي يا سارة، سأروي لك قصتي فيما بعد، أودُّ فقط أن أحدثك عن قلب رجل أحببته بجنون وهو يبادلني جنونًا من الحب أعظم وأكبر، كما تعرفين أغلب قصص الحب تنتهي للأسف بالفراق الذي لا يودُّ أحد الطرفين إنهاءه بهذه الطريقة المؤلمة».
وتتجلّى روعة وصف المشاعر في المقطع التالي: «بقيتْ سارة مكانها تسترجع ذكريات ذلك الحب بصوت يملأه الحنين: كم من المرات التي كنتُ أتظاهر فيها بما ليس في داخلي كي أحافظ على بقايا صور جميلة جمعتنا، لقد خسرنا أشياء كثيرة لم يعد بالإمكان استرجاعها، رحل ذاك الزمن بأهله وأحلامه ونحن مازلنا غارقين في ذكرياته التي لا تكاد تنفكّ عنا، رحلت آمال بحجم السماء بعد أن جفّت الدموع وتلاشت معالم السعادة، ما أصعب أن تنظر لنفسك في المرآة فلا تعرفها! ما أصعب أن تشعر بالعجز عن الانتصار لنفسك وأحلامك.. تلك التي تُقاوم الانكسار والأنين والألم، تقاوم من أجل البقاء على قيد الحياة..».
وتظهر لنا بين فينة وأخرى أبعاد أنطولوجية وجودية متشابكة مع الأبعاد النفسية والإنسانية والجمالية في حكاية الرواية، ومن تجليات البعد الأنطولوجي الوجودي الحوار التالي:
«- لا أصدّق ما أسمعه، أصبحت نظرتكِ للحياة مخيفة، نحن لا نعيش في غابة، بل تحكمنا العدالة والقوانين.
- لا يا أمي، نحن نعيش في غابة كبيرة، لا تعرف غير لغة القوة والبقاء للأقوى، لم تمنحنا المثالية غير الضعف واستغلال الآخرين لنا، قد يجعلنا الحزن أناسًا غير أسوياء».
والبنية الفنية للرواية متماسكة إلى حد كبير، وهناك تماسك وتسلسل لأجزائها وأقسامها، فجاءت الرواية متسلسلة تسلسلًا منطقيًا إلى حدٍ كبير، وهذا مما يُحسب لهذا العمل.
تجلّى الزمان بشكل واضح في الرواية، وكان الليل ومرارته ظاهرًا في سردية الرواية ودالًا على مدى حزن هذه الرواية وألمها وفظاعة أحداثها، ووظّفت الكاتبة الزمن توظيفًا جيدًا لتسيير أحداث الرواية الممتدة من فترة الشباب لبطليها الرئيسيين وإلى بعد أكثر من عشرين سنة حيث كان اللقاء الأخير المؤلم الدامي. وظهرت الأمكنة في سردية الرواية بشكل واضح، الشارع، الشاطئ، البحر، المطار، ولكن المكان الفعلي للرواية يكاد يكون غير واضح، ولعل الكاتبة أرادت بهذه الرمزية المكانية جعل القارئ يُسقط أحداث هذه الرواية على مكانه وموقعه، ويتناولها كما يريد هو وكما يختلج في قرارة نفسه وفكره وتصوره.
ظهر الحوار في الرواية بشكل متتابع، وحدث توازن جيد بين الحوار والسرد، فلم يطغَ أحدهما – بشكل كبير – على الآخر، وهذا مما يُحسب للقيمة الفنية للرواية.
ولعل البعد النفسي في هذه الرواية هو الموضوع الرئيس والأيقونة المميزة والأكثر تجليًا بها، وكذلك البعد الإنساني المتعلّق به، ومن أمثلة توهّج البعد النفسي في سردية الرواية هذا المقطع: «كيف لشخص اعتدت وجوده في حياتك أن يرحل إلى الأبد؟ يرحل بلا تلويحة وداع، إلى المصير المجهول، ماذا لو كان ذلك الشخص هو السند والصديق والزوج والأب في آن واحد؟ مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين رحلت كل الأشياء الجميلة في حياة سارة، لم يكن ذلك الغروب إلا أيامًا سوداء لا ترى الشمس، يسكنها الصمت وتغمرها ظلمة الليل».
وفي اللقاء الأخير بينهما، يظهر وصف عاطفي عميق يحمل صورة من أوضح صور البعد النفسي الذي يتلاعب بالنفس البشرية في الرواية، واصفًا ألم اللقاء الأخير بعد الغياب بعمقٍ يحفر في أعماق النفس البشرية، ومُصوِّرًا مشهد الوداع والفراق بعد هذا اللقاء الأخير بمشهد أسطوري مرير أليم يسيل دمًا: «أبت تلك الأيام أن تسمح للزمان مسح آثارها إلا بلقاء أخير يجمعهما بعد غياب طويل في لحظات يصعب نسيانها. حين التقت سارة صدفة مع أحمد، قبل عامين جمعهما الحب وفرّقهما الظلم، ها هي اليوم تلتقي به مجددًا، نظرات صامتة تُشرق كالشمس من عينيها، فتذوب ملامح وجهها بين ثنايا جفونها الغائرة في الحب.
- ما أجمل هذه الصدفة التي التقيتك بها اليوم، كنتُ متيقنًا أن صدف الأيام ستجمعنا مرة أخرى..
- ما زلت متمسّكًا بذلك الحب رغم تلك السنين يا أحمد؟!
- طيفُكِ لم يغبْ عن ناظري لحظة واحدة، أنتِ تعرفين مدى الانكسار الذي أحدثه غيابُكِ.. لقد أحدث فراقكِ خرابًا لا يمكن ترميمه.
- أتوسل إليك ألّا تنبش تلك الجراح مرةً أخرى، إنها غائرة في روحي حدّ الموت، كتلك الشجرة الخضراء كنتُ قبل أن ألتقيك، جميلة ذات أغصان طويلة، حولها أزهار تنشر شذاها في كل الأرجاء، شامخة تأبى السقوط، حلّتْ عليها رياح الخريف فأسقطت أوراقها لتبقى شجرة عارية.. سارة التي تبحث عنها لم يعدْ لها وجود في الحياة، لقد فات الأوان يا أحمد، أرجوك احمل ما تبقى من كبريائك وارحل بصمت، فأنا لا أستحق هذا الحب، لا شيء يمكن أن يمحو من مخيلتي ذكريات تلك الأيام التي جمعتنا، قلوبنا قد أضناها المسير في دروب الحياة... تتساقط دموعها: لا شيء يبقى للأبد، تبًا لتلك الوداعات التي لم تُوقِف ذلك البكاء المخنوق في الحناجر، ثق أنك ستظل في قلبي.. لم يتبقَّ لهما من ذلك الحب إلا تلويحة وداع أنهكت قلبيهما في متاهات الغياب، نهاية أبت الانصياع للقاء.. تُمسك بيد صغيرتها وتمضي في طريقها بعيدًا حتى تلاشت كالسراب...».
أيقونة الشجرة العارية
كما هي عتبة عنوان هذه الرواية، تبدأ الرواية بهذه الشجرة الرامزة إلى بطلة القصة سارة وتنتهي بها، وبين البداية والنهاية أحداث وعواصف هوجاء تُسقط أوراق هذه الشجرة، فتحاول المقاومة بأغصانٍ عارية تكاد تكسرها قوة رياح البؤس والألم: «وقفت تتأمل تلك الشجرة.. كم أُشبه تلك الشجرة العارية أغصانها وهي فارغة من أوراقها.. البدايات الجميلة التي لم نتوقعها ستأخذنا لنهايات لا نريدها..».
هذه الحكاية أليمة بشكل كبير، وتكاد تقطر دمًا أحداثها، مليئة بالمشاعر والعواطف النفسية الجياشة، مفعمة بالألم والحزن والوجع والكآبة والخسائر وأحاسيس الفراق.. والموت، سردية مليئة بالمأساة والبؤس، تتراوح بين آلام الفقد وآلام الخذلان والظلم والحقد، يبرق في ظلام حزنها الأسود ليلًا بروق من التفاؤل والأمل بغدٍ أجمل بعد كل هذه التضحيات وهذه الخسارات، ولكن..
شجرة عارية هي رواية موجعة وسردية محزنة من التراجيديا والمأساة. باختصار هي حكاية طالما كانت تتوق للفرح، إلا أن الألم كان لها بالمرصاد.
** **
د. ساير الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد
@Drsayer_