الذاكرة الشعبية ليست مجرد مستودع للحكايات والأساطير، بل هي وعاء الهوية الجماعية، وجسر يربط الماضي بالحاضر والمستقبل. وعندما يرحل كبار السن دون تدوين ما تختزنه ذاكرتهم من تراث، فإننا لا نفقد مجرد قصص وأمثال، بل نخسر جزءاً أصيلاً من كينونتنا الثقافية وشعورنا بالانتماء. كما يقول سعد الصويان: «الموروث الشعبي لا ينظر إليه على أنه مجرد بقايا الماضي، بل هو خلاصة تجربة الإنسان وذاكرته الجمعية، وإذا فقدناه فقدنا جزءاً من هويتنا». هذه المقولة تلخص بدقة المخاطر التي تواجه المجتمعات حين تهمل توثيق تراثها وتسمح لذاكرتها الشعبية بالتلاشي وسط تحولات العصر الحديث.
في ظل المدنية المتسارعة والتحضر، تعاني الذاكرة الشعبية من التآكل. فالتغيّرات السريعة في أنماط الحياة والعولمة الثقافية أضعفت ارتباط الأجيال الجديدة بموروثاتهم، وقللت من حضور اللغة الأصلية، والحكايات الشعبية، والفنون التقليدية، والعادات التي شكّلت خصوصية المجتمع عبر الأزمان. هذا الانفصال عن الجذور لا يؤدي فقط إلى تراجع الخصوصية الثقافية، بل يُفقد المجتمعات ملامحها الأصيلة، ويحولها إلى كيانات مستنسخة، تفتقر إلى التميز والعمق التاريخي.
ومع انقطاع الذاكرة الجماعية، تتعرض معارف تقليدية كثيرة للاندثار، مثل حكايات البدو الملهمة وملاحم الصحراء الشجاعة، وقصص الأبطال الأسطوريين، وقيم الوفاء والكرم والضيافة الأصيلة، إلى جانب الطب الشعبي، وأساليب الزراعة، والحرف اليدوية، والحكم والأمثال. قد تكون الحلول الحديثة أكثر عملية، لكنها غالبًا ما تفتقر إلى البعد الإنساني والارتباط العاطفي بالماضي، الذي تختزنه تلك الروايات والتقاليد العريقة.
وقد ساهم الإعلام الحديث ووسائل التواصل الاجتماعي في تسريع هذا التراجع، من خلال الترويج لثقافات موحّدة عالمية، على حساب القصص والأساطير المحلية. فالسرديات الجديدة، رغم انتشارها، تفتقر للتعقيد الثقافي الذي يحمله التراث الشفهي. وبهذا، يزداد خطر أن نصبح أمة بلا ذاكرة، تائهة في الحاضر، عاجزة عن استشراف المستقبل. كما يقول الروائي إبراهيم الكوني: «لا شيء أخطر من ذاكرة تذوب في صمت النسيان». فالتراث غير المدوَّن كنز مدفون يضيع مفتاحه برحيل حراسه.
وقد بدأت بعض الجهات في المملكة مثل هيئة التراث بمحاولات لتوثيق هذا الموروث، كما يظهر في مشاريع تسجيل التراث الشفهي، لكن ما زالت جهود الأفراد والمجتمع المحلي مطلوبة لتغطية ما لا ترصده المؤسسات. فعلى سبيل المثال، تقوم هيئة التراث بجمع وتوثيق الحكايات الشعبية والأمثال والفنون من مختلف مناطق المملكة، بينما تسهم مهرجانات في إحياء الفنون والحرف التقليدية وربطها بالهوية المعاصرة. كما أن تجارب فردية في مناطق مثل حائل - حيث كان يُعرف «القصاص الشعبي» الذي ينقل الحكايات في المجالس- بدأت تختفي تدريجيًا، مما يبرز الحاجة إلى تسجيلها وتوثيقها. ويمكن أيضًا الاستفادة من تجارب، مثل جهود اليونسكو في تسجيل الفنون الشفوية كجزء من التراث الإنساني غير المادي، ومنها العرضة والسامري في السعودية.
وتعد المملكة العربية السعودية من الدول الرائدة في الحفاظ على التراث الثقافي وإحيائه، سواء على المستوى المحلي أو العالمي. وفيما يلي أبرز جهودها في هذا المجال:
اليوم الوطني للتراث الثقافي، أقرت المملكة يوم 18 أبريل من كل عام يوماً وطنياً للتراث الثقافي، بهدف تعزيز الوعي بأهمية التراث وحمايته، برنامج «عام التراث، أطلق الملك سلمان بن عبدالعزيز عام 2017م عاماً للتراث تحت شعار هويتنا، بهدف تعزيز الانتماء الوطني والحفاظ على الموروث الثقافي، وتأسست «هيئة التراث» سابقاً الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لتعمل على حماية المواقع الأثرية والتاريخية وتوثيقها، كما تم إنشاء إدارة المتاحف والتراث العمراني.
ونجحت السعودية في تسجيل عدة مواقع تراثية ضمن قائمة «اليونسكو للتراث العالمي»، ومنها:
مدائن صالح، وحي الطريف في الدرعية، منطقة جدة التاريخية (البلد)، الفنون الصخرية في حائل (جبة والشويمس)، واحة الأحساء، منطقة حمى الثقافية بنجران، واهتمت بالمتاحف الوطنية مثل متحف قصر المصمك التاريخي، والمهرجانات تراثية مثل مهرجان سوق عكاظ في الطائف، ومهرجان الملك عبدالعزيز للإبل، ومهرجان الورد في الطائف، والحرف اليدوية والصناعات التقليدية، وإعادة تأهيل المواقع التاريخية، والمبادرات التعليمية والبحثية، والتراث غير المادي، والحفاظ على العادات والتقاليد مثل العرضة النجدية (الرقصة التراثية السعودية المسجلة في اليونسكو)، وتوثيق فنون «الحداء» و»السامري»، والاستثمار في السياحة التراثية، كمشروع العلا ليكون وجهة عالمية للتراث والثقافة، والمشاركة الدولية، مثل اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي (اليونسكو)، وتُظهر هذه الجهود التزام المملكة بحفظ تراثها العريق وتعزيزه محلياً وعالمياً، مما يسهم في تعزيز الهوية الوطنية والتنمية المستدامة.
أمام هذا التحدي، من الضروري تبني إستراتيجيات فاعلة لحماية الذاكرة الشعبية، مثل دمج التراث في التعليم والإعلام عبر إدخال الحكايات التقليدية في المناهج الدراسية، ودعم الإنتاج الفني المستلهم من الثقافة المحلية. كما يمكن إحياء الحرف والفنون الشعبية من خلال تقديم حوافز للمبدعين التقليديين، وتشجيع الشباب على تعلم هذه المهارات وربطها بفرص اقتصادية كالسياحة والصناعات الإبداعية. كذلك يجب توثيق التراث الشفهي بتسجيل الحكايات والأغاني والممارسات الشعبية من كبار السن، سواء عبر كتب أو تسجيلات صوتية ومرئية، لضمان حفظها للأجيال القادمة، إلى جانب إقامة فعاليات ومهرجانات ثقافية تُعيد ربط المجتمع بجذوره، وتخلق مساحات للتفاعل بين الأجيال ونقل القيم بطريقة حية ومباشرة.
البداوة لا تقابل الحضارة ولا تضادها، البداوة تقابل المدنيّة، وإنتاجهما الاجتماعي والاقتصادي والثقافي يُدعى حضارة، المدنية والتحضر ليسا نقيضين للتراث، بل يمكن أن يكونا أدوات لإحيائه إذا تم التوازن بين الانفتاح والخصوصية الثقافية. الحفاظ على الذاكرة الشعبية ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية لضمان بقاء الهوية وتجددها. إن مسؤولية حماية هذا التراث لا تقع على المؤسسات الثقافية وحدها، بل هي واجب جماعي. فلنحفظ ذاكرتنا الشعبية، كي تظل شجرة هويتنا راسخة الجذور، وارفة الظلال، قادرة على الصمود في وجه رياح التغيير دون أن تفقد أصالتها.
** **
سالم الثنيان - حائل
@SAlthnayan