في ليلة راودتني فيها الحُمّى، قررت مرافقة العباس بن الأحنف من خلال قراءة ديوانه الممتلئ بالأشعار الوجدانية الجميلة، وبعض الأبيات المتكلفة الساذجة، وأثناء تصفّحي الديوان، قرأت بيتاً يتّسم بنوع من الاستفزاز والذل، فلم أستطع تجاوزه دون التعليق عليه.
يقول العاشق المُغرم الولهان الذي هام بفوز:
يا بني آدم تعالوا ننادي
إنما نحنُ للنساء عبيدُ
وهو بيت متكلّف، ينمّ عن ضعف شخصية الشاعر في هذه الحالة الوجدانية، إذ وضع نفسه موضع العبد، ولم يكتفِ بذلك، بل دعا جميع أبناء آدم إلى الأمر ذاته.
وعندما نتأمل العلاقة بين الرجل والمرأة، نجد أن حواء خُلقت من ضلع آدم ليأنس بها وتأنس به، وإيراد لفظ “عبيد” وتوصيف الرجال بهذه الصفة أمر خليق بنا أن ننتقده ونستخفّ به، إذ لا عبودية في الهوى، وإنما فيه غرام وخضوع وجداني يلتذذ به العاشق أحياناً، بينما العبيد لا يتلذذون بالعبودية. والرجل عادةً يخضع بطوعه وينهض بطوعه، لذا لا توجد عبودية – من وجهة نظري –، والعباس شاعرٌ مفرط في الشعور، يترنّم على الخضوع والتوسل والتودد، وهذا ما دفعه لكتابة هذا البيت الرديء.
على العكس من ذلك، يثير إعجابي الرجل المتزن، الذي يعرف متى يخضع ومتى ينهض، ومتى يرضى ومتى يغضب، فالحب يحتاج إلى مكابدة ومعرفة بكيفية التصرّف، ويُعجبني بيت الشاعر الذي يقول:
بَكيتُ مِنَ البَينِ المُشِتِّ وَإِنَّني
صَبورٌ عَلى طَعنِ القَنا لَو عَلِمتُم
هنا تظهر صدق العاطفة وقوتها معاً، ونجد أن الشاعر عبّر عمّا يختلج في صدره بألفاظ رقيقة وقاسية في آنٍ واحد، ولم يتكلّف ألفاظاً غير مناسبة تمسّ شخصية الشاعر وغروره، بل نرى أن الحب أضناه، لكنه لا يزال يتسم بالشجاعة، فرقّ في ميدان الغرام، واستبسل فيما سواه.
ولا أود أن أختتم هذه المقالة بالنقد دون إبراز الوجه الذي يثير إعجابي في العباس بن الأحنف؛ فإن ديوانه الذي تصفحته يضم أبياتاً بلغة ذروة الجمال، وقد أجاد الوصف بأسلوب عذب لا يستطيع الإتيان به كل شاعر.
ومن الأبيات التي أكلف بها، قوله:
إنَّ المحبينَ قومٌ بين أعينِهم
وسمٌ من الحب لا يخفى على أحدِ
وهذا أسلوبٌ بلاغيٌّ جميل؛ تأثّر فيه الشاعر بالوصف القرآني: “سيماهُم في وجوههم”، إذ إن الإيمان يظهر على وجوه المؤمنين، ويرى أن الحب كذلك يترك وسماً على وجوه المحبين، ويا لروعة هذا التصوير، يا سي عباس.
ويشدّني جنونه العاطفي الذي يُبديه حين يقول:
عصيتُ فيها عبادَ الله كلّهمُ
من لامني سفهاً أو لامني رشَدا
فهو لا يعبأ بلوم أحد، ولو كان اللوم على هدى؛ كأنما اختار المتيّم الغلبان دربها، وإن كان فيه الهلاك.
والعباس لديه أبيات عديدة تستحق الإشادة، ولكنني أختم بهذا البيت الذي أحسن سبكه وأبدع فيه:
لكنْ مَلِلْتِ فما بصَدِّكِ حِيلةٌ
صَدُّ المَلولِ خِلافُ صَدِّ العَاتِبِ
وقد صدق؛ فالمعاتب يحمل في عتابه بقايا ود، أما الملول فلم يَبقَ في جعبته شيء، وهو ما عبّر عنه أحد الشعراء بقوله: “يبقى الودُّ ما بقي العتابُ.»
** **
- عبدالعزيز بن فهد العجلان