أظهرت خطابات «صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان» تحولًا جوهريًا في فلسفة الاتصال السياسي في العالم كافة، وفي المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، وشكّلت تجاوزاً للأنماط التقليدية في الخطاب السياسي، لتؤسس لأنموذج جديد من التواصل القائم على الشفافية والوضوح والرؤية المستقبلية.
واكتسب هذا الخطاب جاذبيته من طبيعته المركّبة التي تمزج بين الصدق الوطني والحس الاستراتيجي، وبين التمكين الشعبي والقيادة الطموحة، من خلال دمج الرؤية الاستراتيجية مع اللغة البسيطة، والتراكيب المكتظة بالمعاني اللافتة، والصدق العاطفي مع العقلانية السياسية، والاتساق بين القول والفعل، كل هذا مكنه من تحقيق تأثير كبير في الصعيدين الداخلي والخارجي، ناهيك عن كون خطابه - حفظه الله - ليس خطاباً عابراً، بل كان عن وعي تاريخي متجدد يتأمل في جدلية القوة والمشروعية، ويستلهم المواقف والأحداث، لتبدو نبراساً يستضيء به في رؤية أكثر إشراقاً ونضجاً.
فإذا حاولنا ولوج عالم خطاب سموه ألفيناه يعتمد على مرتكزات عقلانية متينة؛ تبدأ من التشخيص الواقعي للتحديات الراهنة، وتنتهي بوضع حلول قابلة للتنفيذ ضمن أطر زمنية واضحة، وبين هذا وذلك لا تنفك عن الطرح المنهجي «لرؤية السعودية 2030» وما تحمل من ببيانات دقيقة ومؤشرات أداء محددة، لأن تقديم الأرقام والمؤشرات - كما في حديثه حول تقليل الاعتماد على النفط وزيادة الناتج المحلي غير النفطي - من شأنه أن يعزز من قوة الإقناع بتقديم الحقائق والأرقام، هذا الأمر جعل خطاب سموه ممتدًا ومؤسّسًا، لا يُعالج اللحظة الآنية فقط، بل يستشرف آفاق المستقبل، مبتكراً الحلول الداعمة، والأفكار الواقعية.
واستطاع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان أن يُطوّع اللغة لتشكل في خطابه أداة للهيمنة الرمزية، خاصة عندما ترتبط بالسياقات المتنوعة كالسياسية أو الإيديولوجية، فالمتكلم (الحاذق) يمتلك من الآليات ما يسمح له بإقناع المتلقي، وتوجيهه وفق مسارات محددة. وعندما تستعرض اللغة حجاجيتها بأسلوب واضح ومباشر، متوسلةً بالتصورات الذهنية، والأنماط السياقية، واللمحات الإشارية، فإنها تفعّل آلياتها التداولية لتُعيد تشكيل بنية الخطاب، ليس بهدف الإقناع فحسب، بل لفرض تأويل محدد، وإنتاج تأثير فعلي في المتلقي، مستثمرةً كل ما تتيحه لها بنيتها الرمزية من سلطات تمثيلية وتأويلية.
إلى جانب ما سبق، يتضمن خطاب سموه إشارات وجدانية عميقة، تعكس جذور الانتماء لهذا الوطن، والاعتزاز بالهوية السعودية، إذ يدعو أبناء وطنه إلى الانفتاح الواعي على العالم؛ لأنه لا يرضى إلا أن يكون المواطن السعودي في « المركز الأول» في كافة الميادين وعلى مختلف الأصعدة، وبهذا يركز مضمون خطابه وأنساقه المختلفة على البعد العاطفي إدراكًا لطبيعة الجمهور السعودي الذي يستجيب بفاعلية للخطابات التي تحترم عاطفته وهويته، ولهذا استعمل سموه مفردات مألوفة تُلامس وجدان المتلقي، مكتظة بدلالات عميقة تتجاوز الظاهر إلى بُعد سردي يخضع لقوانين اللغة، ويكتسي بحلل السلاسة والتأثير، وجودة الانتقاء.
كما وازن سموه في خطابه بين الواقع والمتخيل، بين الممكن والمأمول، فقدم الخطاب نوعاً من (اليوتوبيا العقلانية) لا تلك الحالمة المنفصلة عن الواقع، ولم يكن خطابه أياً كان نوعه ومضمونه مجرد لغة، بل بات حدثاً وجودياً، يسعى لتشكيل الواقع، ورسم المستقبل وفق أسس المشاركة في صناعة المعنى.
ولتحقيق فعل الإقناع وتمرير مختلف رسائله التي يبثها في خطاباته - حفظه الله - اتشحت بلغة تتسم بالوضوح والواقعية من جهة، وتجمع البساطة والرصانة من جهة أخرى، وتكون أقرب للقلوب والعقول، ويفهمها العامة والخاصة، مما يجعل خطابه مقروءًا ومسموعًا من شرائح المجتمع كافة، لأن من شروط الاتصال السياسي الفاعل: قدرة المخاطب على تبليغ الرسالة المتوخاة إلى المتلقي بيسر وخفة، لتلامس شغاف القلوب دون حواجز، أو زخرف لفظي، مما يجعل الأثر الذي يحدثه في نفسية مخاطبه قوياً ومؤثراً، وعلى درجة كبيرة من البيان والإيضاح؛ لأنه يعلن ويصرح عن أفكاره ومبادئه منذ الوهلة الأولى، حتى لا يربك مخاطبيه أو يضعهم في موقف محرج أو غامض، الأمر الذي يعزز الثقة بينه وبين أبناء شعبه، ويكسب خطابه المزيد من المصداقية في الطرح والحجج.
ومن الواضح بعد هذا أنّ خطابات صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان شكّلت أنموذجًا حديثًا للخطاب الاجتماعي والسياسي المؤثّر والمُقْنع، وأنها مثّلت تحوّلاً مفاهيمياً عميقاً، يجمع بين الإقناع العقلي والاستمالة العاطفية، بين الفكرة الآنية واستشراف المستقبل، بين التحدي الواعد والتحقق الفعلي، ليُعيد صياغة الأثر الحضاري للسياسة في عصر تتشابك فيه الطموح، وتتباين فيه التوجهات.
** **
أ.د. محمد بن عبد العزيز العميريني - الأستاذ في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبو ظبي