هل الماضي حقاً بتلك الوردية والرومانسية التي يصورها أدب النوستالجيا؟ هل كان يحمل ذلك السحر والكمال الذي نشاهده في الأعمال الدرامية أو التاريخية التي تمجّد شخصيات عظيمة، وتتحسّر على غيابها، وتتغنّى برومانسية عذرية تسكن أزقة الأحياء الشعبية؟ هل كانت حياة الفقر والتقتير والقلة أياماً سعيدة، يُستعاد ذكرها بحنين طوباوي إلى عالم مثالي خالٍ من الشر والأطماع؟ أم أن هذه مجرد صورة نرغب في تصديقها، بينما الحقيقة تحكي شيئاً آخر؟
في رواية «يوم الجرو»، يكشف محمد الحارثي عن الوجه القاتم للماضي، موضحاً كيف يمكن للفقر والظلم والجهل أن يشوّهوا أخلاق الإنسان، ولغته، وحتى حياته بأكملها. يطرح الحارثي سؤالاً جريئاً حول أثر استبداد الآباء وغيابهم وسلبيتهم في تدمير العلاقة الأكثر قداسة في المجتمع: علاقة الابن بالأب. إذ بينما تكرّس روايات الحنين للماضي مفهوم الطاعة العمياء والاحترام والتقدير للآباء، نجد في «يوم الجرو» نموذجاً معاكساً تماماً؛ فهناك شخصيتان في الرواية تتجرآن على الأب، في تمرد صريح على القيم التقليدية.
فياض، أحد أبطال الرواية، يرفض أن يكون مجرد امتداد لوالده المحطم والفاشل، معلناً انتماءه إلى جدته، ودفاعه عنها في وجه أبيه: «ترميني بالحجر يا عاق.. لعنة الله عليها من بولة ولعنة الله عليها من ليلة، سأعيد تربيتك يا عاهر. لولا العجوز لرأيت مني ما لم تره». (ص168)
وبالمثل، يرفض طيري أن يبقى الابن المنبوذ، مصمماً على نزع الشرعية عن والده الظالم. وهكذا يصبح التطاول على الأب في الرواية رمزاً لتمرد الأبناء على جيل قديم، على ماض كريه، ونظام اجتماعي فاسد، ورغبة في خلق هوية جديدة لا تخضع لسلطة الماضي.
يتجسد هذا الصراع في شخصية فياض، الشاب الضخم الذكي، الذي ينشأ في بيئة غارقة في الفقر والعوز والقذارة، بين بذاءة جدته وسلبية والده. يحاول فياض أن يخلق عالماً جديداً لنفسه، حتى لو كان وهمياً، من خلال إيهام نفسه بالوقوع في حب فتاة بالكاد يعرفها وتفتقر لأي جمال. فهو لا يريد أن ينتمي لعالم أبيه، ذلك الرجل المحطم الذي يعاني الإحباطات والخسارات، عاجز عن حماية ابنه أو دعمه، لدرجة تركه عامين بلا تعليم لمجرد أن سيارته أصبحت قديمة ومعطلة أغلب الأوقات.
أما طيري، الابن البكر لزيني، شيخ أم الهداهد، ورمز السلطة السياسية والاجتماعية والدينية، فقد عانى من نبذ والده له لأنه وُلد قزماً. هذا النبذ المستمر جعله يكبر محطّماً نفسياً، لتصبح الصفعة التي يوجهها إلى أبيه أكثر من مجرد انتقام لحظي، بل هي صرخة رفضٍ في وجه سنوات طويلة من الإقصاء والتهميش، ومحاولة يائسة لاستعادة كرامة مسلوبة ودونية فُرضت عليه قسراً.
لهذا، لم تكن تلك الصفعة مجرد فعل عابر، بل حملت دوياً تجاوز المكان والزمان، لتصبح إعلان حرب بين جيل جديد يرفض شرعية القيم القديمة، وجيل قديم متشبث بسلطته.
فما هي حكاية «يوم الجرو» التي تتناول مواضيع معقدة تتعلق بالرجولة والنضج والعلاقات العائلية المتوترة وعلاقات حب محبطة، وذلك من خلال عدسة تجمع بين السخرية والفجاجة والأسطورة الشعبية.
قبل أربعين سنة، كان عصام مراهقاً يترقب لحظة بلوغه بقلق، يخشى تأخره مقارنة بأصدقائه، وخاصة ميمون الجمل، الذي سبقه إلى الرجولة بفعل هرموناته المتسارعة: «كنت ذلك الأحمق. (مرسول الحب) الذي يطلب منه المحبون أن يعجل في توصيل الرسالة إلى يد المحبوب. كنت ذلك الأحمق الذي ينقل الكتاب من بين يدي العشاق. حدثت كل تلك التفاهة والحماقة عندما بلغ (ميمون الجمل) الحلم وصار رجلاً قبلنا. كنا خمسة، يكبرنا الجمل بثلاثة أو أربعة أشهر. هرموناته الذكورية عجلت ببلوغه بينما هرموناتنا تأخرت قليلاً، تأخرت ثمانية أشهر فقط.» (ص16)
في خضم هذا القلق، قاد البحث عن سر الرجولة عصام إلى بيت غامض في قرية أم الهداهد، يُدعى «بيت الجعرة»، تسكنه عجوز تُدعى رعناء، نُسجت حولها الحكايات، فقيل إنها تزوجت جنيّاً وأنجبت منه ولداً يُدعى عقاب. لكن ما وجده عصام لم يكن سوى واقع مختلف تماماً؛ رعناء لم تكن سوى عجوز كباقي العجائز، أما حفيدها فياض، المعروف بـ»الجرو»، فرغم قوته الجسدية وشراسته، كان في داخله صبياً رقيقاً يبحث عن الحب. وأما عقاب، ابن رعناء، فلم يكن سوى ميكانيكي فاشل، هجرته زوجته وتركته وحيداً مع ابنه الرضيع، يتخبط بين فشله المهني ووحدته العاطفية.
وسط هذا العالم الغريب، يُصدم القارئ بكم الشتائم المقذعة التي تتبادلها رعناء وابنها، «شتائم عابرة للأجيال»، مصحوبة بحركات الأصابع والإيحاءات الجنسية، ولا سيما حينما تسخر من علاقته بغزالة، المرأة التي تأتي طالبةً منه «حكّ روحها» مقابل ما تدفعه لوالدته. يلجأ عقاب إلى العنف اللفظي كوسيلة للتنفيس عن إحباطه، فهو رجل مسحوق بين فشل في إصلاح السيارات، ورفض للزواج بعد هجر زوجته، وصراع دائم مع والدته التي خاب أملها فيه. في ظل هذا العجز، تصبح الفجاجة لغته، وكأن تعويض النقص الجنسي لا يتحقق إلا بإطلاق أقسى الألفاظ.
ورغم كل هذه البذاءة، لا تخلو لغتهما من الطرافة، فكأن الشتائم بينهما لا تستخدم تعبيراُ عن الكراهية، بل هي شكل من أشكال التواصل، أسلوب وحيد فرضه عليهما واقعهما القاسي. فهل يمكن أن تكون الشتائم، رغم فظاظتها، لغة عاطفية خفية، رابطاً مشوهاً لكنه حقيقي بين أم وابنها؟
ما يبرز في هذه الحكاية هو التناقض بين المظهر القاسي والباطن الهش للشخصيات، فالجرو الذي يبدو شرساً، يبحث عن الحب عبر خرم في الجدار. وعقاب الذي يعيش إحباطاته من خلال العنف اللفظي، يسمح لغزالة باستغلاله جنسياً. ورعناء رغم فجاجة ألفاظها، تتعلق بشكل مرضي بريحاناتها وتطلق عليها أسماء صديقاتها الراحلات. فهل كان توظيف هذا الأسلوب في السرد يهدف إلى إضفاء طابع الواقعية؟ وهل الشخصيات في الواقع تستخدم هذه اللغة الفجة وبالتالي يحق للأديب نقلها كما هي؟ وهل يبرر لعجوز متدينة تصلي وتدعو الله كثيراً، استخدام تلك الألفاظ بحجة ما تعرضت له من ظلم وتضييق؟
كان زيني الصياد، شيخ أم الهداهد، يحمل ضغينة قديمة تجاه رعناء منذ صباها، حين اختارت الزواج من رجل فقير بدلاً منه. بعد وفاة زوجها، لم يكتفِ زيني باغتصاب أرضها، بل حوّلها إلى منبوذة بنشر الشائعات عنها، مدعياً أنها ساحرة تعيش مع الجن. لكن حملته التشويهية جاءت بنتيجة معاكسة؛ فبدلاً من نبذها، أصبحت رعناء مقصداً للنساء الباحثات عن حلول لمشاكلهن، مستعينات بتعاويذها وتمائمها. وهكذا، وجدت رعناء في الشتائم والشعوذة وسيلة للبقاء، تؤكد بها الشائعات حول تعاملها مع الجن، لا لأنها تؤمن بذلك، بل لأنها أدركت أن ترسيخ صورتها المخيفة هو درعها الأخير في وجه الظلم والتهميش.
في مجتمع يقهر الضعفاء ويقصي المهمشين، تصبح الشتيمة أكثر من مجرد تفريغ غضب؛ إنها أداة مقاومة، «رصاصة لغوية» تعوّض عن القوة الفعلية المفقودة. لم تكن رعناء تملك سلاحاً سوى لسانها، فصنعت من فجاجة كلماتها درعاً يحميها من قسوة العالم. الشتائم هنا ليست مجرد بذاءة، بل وسيلة بقاء، لغة عنيفة تخفي وراءها هشاشة داخلية، وتُلبسها قناع القوة في مجتمع لا يرحم من يقع في دائرة ضعفه.
وفي هذا السياق يطرح الباحث صادق جلال العظمة في كتابه «ما بعد ذهنية التحريم» تساؤلاً حول ازدواجية المجتمع في التعامل مع اللغة، حيث يُسمح بها شفهياً لكنها تُحظر حين تصبح جزءً من الأدب المكتوب.
يتساءل الباحث: «لماذا هذا التحرج الشديد والتزمت المبالغ فيه إزاء تسجيل أو تدوين أو كتابة أو طباعة عبارات وكلمات وأمثال ونكات ونعوت ومسبات ينطق بها ملايين البشر ملايين المرات في كل ساعة من ساعات الليل والنهار وفي مجرى حياتهم اليومية والعادية والعفوية والعائلية والمهنية الخ؟ هل هو الحياء حقاً؟ لكن لماذا تستحي الناس والسلطات من الكتابة والمكتوب ولا يستحي أحد، على ما يظهر، من الفعل الأصلي الذي لا تعمل الكتابة إلا على تسجيله وحفظه وتوثيقه؟ لماذا الثورة على الأديب والغضب على الباحث والزجر للعالم إن هو أقدم على نقل الشفوي إلى مستوى الكتابة؟ تصوروا معي الآن حال أديب ألّف رواية عن تجربته في الجيش ومع الحياة العسكرية، مثلاً، بلغة الصالونات المهذبة تهذيباً عالياً ودون استخدام كلمة بذيئة واحدة في نصه!؟»
فهل كان الحارثي في روايته يشوه ماضٍ مثالي أم يقدمه كما كان فعلاً؟ هل كان متجنياً عندما قدم شخصية تختلف تماماً عما اعتدنا عليه من شخصيات عجائز يتصفن بالحكمة وحلو الحديث؟ وهل رفضت دور النشر المحلية إصدار روايته لأنها لم ترقى لمعايير الأدب «المؤدب»؟
«كانت (رعناء) عجوزاً كبقية عجائز البلدة، لها نفس الوجه ونفس الرائحة، ونفس الكرم، ونفس التدين، ونفس السباب والشتائم.» (ص27)
ربما كان هذا الوصف وحده كافياً ليكشف عن واقع لا يريد البعض الاعتراف به، لكنه موجود، حقيقي، ويستحق أن يُروى.
يجد عصام في بيت الجعرة ملاذاً من تنمر أصدقائه، ويصبح صديقاً مقرباً للجرو، ذلك الفتى القوي الشجاع الذي هزم أمام الحب. أحب فتاة متواضعة الجمال، وأوكل إلى عصام مهمة توصيل رسائل الحب بينهما، رسائل حب طفولية تحمل بعض كلمات الحب والأغاني وقلوباً تخترقها السهام. لكنه ينهار حين تهجره وضحا وترفض انتظاره عشر سنوات ريثما ينهي دراسته ليصبح مهندساً ويأتيها خاطبا، فيجن جنونه ويعتدي على عريسها في ليلية زفافهما.
«لن تصدقوا أن ذاك الشاب الضخم القوي الذكي ذا الستة عشر ربيعا يصرعه الحب هكذا، ويبكي بلا سبب سوى أنه رأى حبيبته من خرم جدار.» (ص 129)
هل أراد الحارثي القول أن الحياة ليست بتلك الرومانسية التي يُصورها البعض؟ ربما أراد أن يُظهر أن الجرو، رغم محاولاته الفارغة للانسلاخ من بيئته والانغماس في عالم مثالي تحيطه كلمات الحب والأغاني العذبة، إلا أن الواقع القاسي يعيده دائماً إلى أرض الواقع. عالم لا مكان فيه ل لرومانسية الزائفة، حيث يسيطر العنف اللفظي والفعلي كأقوى أدوات التعبير عن حقيقة الوجود. وهكذا، يظل الجرو عالقاً بين حلمه الوردي وواقع لا يرحم.
رحل عصام عن أم الهداهد وانتقل إلى جدة، ليصبح لاحقاً مقدم برنامج إذاعي بعنوان «أيامنا الحلوة»، حيث يروي رسائل المستمعين وذكرياتهم. ذات يوم، تصله رسالة بعنوان يوم الجرو، يتهمه فيها صديقه القديم»الجرو» بالخيانة، متهماً إياه بتزوير رسائل حبيبته. عندها، قرر عصام أن يروي القصة كاملة عبر الإذاعة، محاولًا أن يبرئ نفسه بعد كل هذه السنوات.
لا يمكن القول أن الرواية توظف الشتائم والإيحاءات الجنسية بغرض الإثارة، بل لتكشف عن واقع قاسٍ يتداخل فيه الفقر والقهر الاجتماعي والحرمان العاطفي. إنها ليست مجرد بذاءة، بل صدى لمعاناة الشخصيات، وطريقة للتعامل مع الحياة بأسلوب هجومي يخفي هشاشة داخلية عميقة.
تعكس تلك الشتائم المتوارثة عبر الأجيال، بيئة ثقافية تتعامل مع اللغة بوصفها أداة للنفوذ الاجتماعي. في مجتمع أم الهداهد، الشتائم ليست مجرد كلمات، بل هي جزء من «الحوارية» اليومية التي تحدد العلاقات بين الأفراد، وتصبح وسيلة للسخرية والانتقام وأسلوب دفاعي لدرجة أن الفرد يبحث لنفسه عن عيرة يكنى بها قبل أن يفعل ذلك أهل القرية فتلتصق به «شتيمتهم» مدى الحياة. الشتائم هنا تحمل طابعاً احتفالياً في بعض الأحيان، حيث لا تهدف فقط إلى الإهانة، بل إلى خلق نوع من «الهوية الجماعية» التي تؤسس لقيم الرجولة والقوة.
- بلدة ملعونة.
فالشتائم إذاً جزء من البيئة الثقافية والشفوية لا يمكن نكرانها أو التغاضي عنها بهدف تجميل الماضي، حتى وإن رفض الرقباء «والمثقفون المتعالون» وجود ألفاظ خادشة للحياء فجعلوا المحرمات في الأدب لا تقف عند الجنس والدين والسياسة بل تزيد عليها محرماً رابعاً هو «محرم البذاءة» كما يصفها بوعلي ياسين في كتابه: «بيان الحد بين الهزل والجد: دراسة في أدب النكتة» قائلاً:
«موضوع البذاءة ذو شجون في الوطن العربي. لطالما تحدث الكتاب والمفكرون عن المحرمات التي تقيد المثقفين في أعمالهم، تحرمهم الحرية اللازمة للإبداع وتبعدهم عن الواقع من خلال إبعادهم عن جوانب أساسية من هذا الواقع، وهي: السياسة والجنس والدين. وقد وجدت أن أدب النكتة، باعتباره من أكثر الأجناس الأدبية شعبية والتصاقاً بالواقع، ينوء تحت عبء محرم رابع، لا يقل ثقلاً عن المحرمات الثلاثة الأخرى. إنه محرم البذاءة. أقصد بذلك، كما سبق التعريف، تلك الكلمات التي كما يقال-تسيء إلى الآداب العامة أو تتنافى مع الحشمة. فإذا كان الواحد منا يسمع يومياً الشتائم والتعابير البذيئة في كل مكان، إن لم يكن هو نفسه يتفوه بها، في حين أنه يقدم للناس ثقافة «مؤدبة»، فكم يكون إبداعه عندئذ غريباً عن هذا الواقع؟!
أدبنا العربي الحديث مؤدب جداً. وهو كذلك لأنه عموماً أدب مثقفين متعالين، وأدب وسائل إعلام وثقافة مراقبة. أما أدبنا القديم فما هكذا كان. وأما أدبنا الشعبي فهو غير مؤدب، وخاصة غير المسجل منه، أي الأصلي الذي لم يجر تهذيبه.. البذاءة تكون أحياناً ضرورية. وذلك عندما تنفجر في مناسبتها وفي لحظتها. وهي سلاح الضعفاء والمظلومين.»
نعم، تزخر الرواية بلغة جريئة مشحونة بالشتائم الساخرة، لكنها ليست زوائد لفظية يمكن حذفها دون أن يتأثر النص، بل جزء من النسيج النفسي والاجتماعي الذي يحدد علاقات الأفراد، حيث تتحول إلى وسيلة للتعبير عن القوة أو السخرية أو حتى الحب المتناقض كما رأينا بين رعناء وابنها عقاب.
** **
- رانيا منير