رواية «فارس» من تأليف بيير لوتي، صدرت عن دار نشر جاليمار بفرنسا في يوليو 2018 في حوالي 320 صفحة
الكاتب والرحّالة بيير لوتي(1850–1923) ضابط في سلاج البحرية الفرنسية، روائي انطباعي دائم الترحال. أصدر العديد من الأعمال الأدبية التي تستحضر في غالبها ثيمة الهروب إلى أوطان بعيدة ينغمس فيها هربا من قلقه الوجودي ويبحث من خلالها عن ملاذ آمن يساعده على مواجهة أزماته النفسية.
في رواية فارس، يعيد لوتي تشكيل انطباعاته وذكرياته عن السفر في قالب روائي لا يطغى على مادة الرحلة نفسها: سان- لوي في السنغال تعدّ نموذجا لمنطقة تقع على تخوم الساحل والصحراء، وهي منطقة ذات أهمية إستراتيجية عرفها بيير لوتي وربما أقام فيها لفترة من الزمن في أواخر القرن التاسع عشر، الذي شهد ذروة التوسع الاستعماري الفرنسي في إفريقيا، حيث تم تكليف جون بيرال بمهمة عسكرية كجزء من السياسة الاستعمارية الفرنسية لتعزيز سيطرتها على المنطقة وترسيخ هيمنتها العسكرية، من هذا المنطلق تتشكل الخلفية الحيوية التي تقوم عليها مجريات الأحداث في رواية فارس.
في هذه الرواية التي كتبها بيير لوتي عام 1881، يعيش القارئ مع بطل الرواية، جون بيرال، تجربة اكتشاف إفريقيا الرازحة تحت وطأة الاستعمار ويجتاحهما خليط من المشاعر التي أثرّت أولا وقبل كل شيء في قلب ذلك الشاب الفرنسي الذي التحق بأحد أفواج الفرسان في السنغال وهو في العشرين من عمره بعدما ترك مسقط رأسه في منطقة سيفين، وذهب إلى السنغال، هناك يختبر كل من القارئ وبطل الرواية شعور الغربة والوحدة ويكتشفان معا طبيعة غنية ومتنوعة من الغابات والسهول بحس شاعري رومانسي.
في هذا العمل، يخلط بيير لوتي بين الوصف الحالم للطبيعة الإفريقية والسرد الذي يحمل طابعا حزينا ومأساويا؛ اذ يسكن قلب جون حنين لوطنه ويثقل روحه اغتراب لا يزيده إلا حزنا، ويجعل تأقلمه مع أرض غريبة أمرا بالغ الصعوبة. يضاف إلى ذلك، علاقة عاطفية اتسمت بغموض وانتهت بشكل مأساوي: فالحزن والحنين إلى الوطن يعتبران من العناصر الدائمة في أعمال بيير لوتي.
جون بيرال في موقعه المعزول قرب سان-لوي يواجه عالما مختلفا تماما عن عالمه الأوروبي، يتميز بمناظر طبيعية غير مألوفة ومناخ قاس وعلاقات إنسانية تتسم بسيطرة المستعمر على أرض وشعب آخر، الأمر الذي جعله يعاني ليس فقط من ملل قاتل بسبب الغربة عن وطنه وعن عائلته وعن الفتاة التي كان يوما ما خطيبها، ولكن أيضا هذا الأمر جعله يعاني من انهيار داخلي تشكل في أعماقه شيئا فشيئا لتكون نهايته تراجيدية بكل ما تحمله الكلمة من ألم، إذ سقط قتيلا في معركة ناقتها وجملها للجالس على عرش الامبراطورية في العاصمة باريس.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل وقعت رواية فارس في فخ السرد العرقي الفج؟ نعم، تعكس الرواية قضية الاختلافات العرقية والإيديولوجية الاستعمارية في القرن التاسع عشر. فبعض التعبيرات والصفات المستخدمة في الرواية تصدم قارئ القرن الحادي والعشرين، كالمفردة «زنجي» والأوصاف المرتبطة بها التي توقظ في نفس القارئ مشاعر الدهشة والانزعاج تجاهها، وتجعله يتوقف عند أبعادها النفسية والاجتماعية ويدفعه إلى إعادة النظر في القيم والمبادئ التي يكنها في صدورهم ويتغنى بها أتباع الامبراطورية الاستعمارية الفرنسية.
تعود الفظائع المرتبطة بالسياق التاريخي للرواية إلى الحقبة الاستعمارية التي جعلت الكاتب يصف الممارسات الثقافية للشعوب الأفريقية من عادات وطبائع على أنها بربرية ووحشية: فالموسيقى الأفريقية بدون إيقاع والفنانون التقليديون (جريوت) يعزفون دون أدنى موهبة والأكواخ مجرد أكوام من الغبار والنساء يشبهن القرود.
هكذا يصف الكاتب إفريقيا السوداء وصفا ينسجم تماما مع رومانسية شديدة القتامة، مشبعة بالألم، تجعل القارئ يشعر بسنغال كئيبة: بحرارتها ومناخها وسكانها ونباتاتها وروائحها. يغوص الكاتب في عالم مختلف تتقاطع العاطفة فيه مع الألم والوحدة: إفريقيا بسكونها وفتنتها وسحر فتياتها حافيات الأقدام.
ضمن هذا السياق المرعب، يتناول المؤلف علاقات متوترة بين البيض والسود وبين المستعمرين وأصحاب الأرض الأصليين، كما أنه ينفر القارئ باستمرار من فظاعة صحراء افريقيا القاحلة بمناظرها الطبيعية الموحشة التي لا تشبه ما يعرفه عن أوروبا ومنطقة سيفين الساحرة التي تتوشّح بغاباتها الكثيفة وتنبض بجمال طبيعتها.
رغم أن رواية فارس تنتمي إلى التيار الرومانسي الذي انتشر في القرن التاسع عشر، الا أنها تحمل بين طياتها جوانب مظلمة، إذ إنها تستعرض العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها الإفريقية، وتتناول بالتحليل التوترات المتعلقة بالهوية والاغتراب. فالعلاقة المعقدة بين جون الفرنسي وفاتو الزنجية تجسد الصراعات النفسية والاجتماعية الناشئة عن هذا السياق الاستعماري.
لم يقف تحيّز بيير لوتي عند عرقه الأبيض فقط، بل تعداه إلى التجني بامتياز على العرق الأسود، فمعرفته بضراوة المنطقة الساحلية الصحراوية انعكست بدقة في نصه الروائي وسمحت له بتقديم الزنوج على أنهم فاسدون ويفتقرون للأخلاق بسبب نقائصهم ومعتقداتهم وسلوكياتهم التي يحتقرها الأوروبي ولا يفهمها.
ولأن الرواية في مجملها تعكس الأفكار العرقية التي سادت في أواخر القرن التاسع عشر، فإن القارئ لن يستطيع تجاهل تشبيهاته المتكررة للزنجيات بالقرود وللموريين بالوحوش الضارية.
في هذا العمل الروائي، ينجح لوتي في جعل القارئ يشعر بالكسل والخمول الذي تسببه شمس افريقيا الحارقة لسكانها من خلال توظيف ألوان صفراء وحمراء زاهية تعبّر عن حرارة شديدة وطبيعة قاسية تهيمن على مسار السرد، وتبطئ من إيقاعه وتثقل من طريقة عرضه.
ختاما: إن رواية فارس لبيير لوتي تُعد واحدة من الأعمال الأدبية التي تنتمي إلى عصر الإمبراطوريات بتوجهها الفكري والفني الذي يصور افريقيا من منظور غربي ويحملها أفكارا مسبقة تتماشى مع الخطاب الاستعماري. إذ تشكل مثل هذه النصوص الأدبية أمثلة واضحة على الاستراتيجيات التي يوظفها الكاتب لترسيخ مفهوم تفوق العرق الأبيض الذي شكّل أساس الهيمنة الأوروبية الاستعمارية.
لا تبدو رواية فارس لبيير لوتي غريبة فقط بسبب طابعها العنصري، ولكن بسبب الحبكة المعقدة وأسلوب السرد المتقطع وتأزم العلاقات الإنسانية وتفسير سلوكيات الشخصيات من منظور نفسي أحادي الجانب.
في هذه الرواية، يخوض البطل الفرنسي تجربتي الحرب والحب معا، إلى أن ينتهي به المطاف في آخر الرواية بشكل درامي عندما يسقط صريعا في معركة خاسرة مع سكان الأرض الأصليين وتنتحر حبيبته الافريقية فاتو-جاي الى جواره، لكنها قبل أن تنتحر تَقتل الطفل الذي أنجبته منه.
** **
أيمن منير - أكاديمي وكاتب مصري