ما الذي يجعل كتابا ما يجد طريقه إلى النور، بينما يظل آخر، لا يقل عنه موهبة، غائبا في الأدراج؟
ما الذي يجعل صوتا أدبيا يخترق جدران دور النشر، وآخر يظل يصرخ في فراغ لا يسمعه أحد؟
في مكانٍ ما بين الكاتب والنشر، هناك كائن آخر يعمل بصمت، يتنقل بين العوالم الأدبية والتجارية، يمد يدا إلى الكاتب، وأخرى إلى السوق، ويسعى أن يصل بينهما، ذلك هو الوكيل الأدبي.
الكاتب يكتب، هذا كل ما يعرف أن يفعله. وأحيانا هذا كل ما يريد أن يفعله. أما النشر، فحكاية أخرى. هو عالم من العقود والإصدارات والمواعيد والحسابات والعلاقات والقرارات التي لا تنتمي بالضرورة إلى الحبر والكلمات. وبين العالمين، عالم الكتابة وعالم النشر، تقف الحاجة إلى «من يترجم». لا من لغة إلى لغة، بل من الرؤية إلى السوق، من العزلة إلى الظهور، من النص إلى احتماله كمنتج. الوكيل الأدبي هو من يقوم بهذه الترجمة. هو الذي يقرأ النص لا بعين القارئ وحده، بل بعين من يعرف العالم الذي سيدخله النص. هو من يعرف أن الكتاب ليس فقط غلافا أنيقا يحيط بمجموعة من الكلمات، بل مشروعا يحتاج إلى تخطيط ومفاوضة وتحمّل وانتظار. وأن الكاتب ليس دائما في موضع يسمح له بخوض كل ذلك وحده.
في بيئات أدبية ناضجة، يُعد وجود الوكيل الأدبي أمرا ضروريا، أشبه بحق من حقوق الكاتب.
لا يُفترض أن يسأل أحد: لماذا يحتاج الكاتب إلى وكيل؟ بل يُفترض أن يكون السؤال: كيف سينجو الكاتب دون وكيل؟
في السياق العربي، لا تزال هذه الفكرة في طور التشكل. فالكاتب غالبا هو وكيل نفسه، وناشر نفسه، ومسوق نفسه، ومحامي نفسه، والناقد الأول والأخير لنفسه. وهو في هذا يتكسّر، ويُستنزف فيما لم يُخلق له.
الوكيل ليس مجرد وسيط، بل هو قارئ أول مؤمن بالنص، حارس له، ساعٍ إلى إيصال رسالته، بوصفه شريكا في الرسالة. هو الذي يعرف قيمة النص، ويبحث له عن المكان الذي يقدّره. الوكالة الأدبية هي ممارسة ثقافية قبل أن تكون وظيفة. هي رؤية لما ينبغي أن يكون عليه الأدب في زمن تداخلت فيه الأبعاد الجمالية مع الاعتبارات الاقتصادية. زمن لا يكفي فيه أن تكتب جيدا، بل لا بد أن يعرف الآخرون أنك كتبت، وأن يجدوا كتابك حيث يجب أن يوجد.
الوكيل الأدبي هو الذي يضع النص في المسار، ويرافقه، ويصطدم بالرفض نيابة عن الكاتب، ويعيد المحاولة، ويقرأ السوق ويتعامل مع الأرقام دون أن يُفسد النص. وهو أيضا من يعود إلى النص لا كمحرّر فقط، بل كشريك في المعنى: يقترح ويُنقّح ويضيء مناطق الظل، ويُعين الكاتب على أن يرى ما لا يُرى من داخل النص. وفي كثير من الأحيان يكون الوكيل الأدبي هو من يُنقذ النص من تسرّعه أو ترهله، ويُعيد تشكيله في صورته الأوضح والأصدق. وهو أيضا من يحمي الكاتب من نفسه أحيانا، من تعجّله أو تردده أو توقه إلى النشر السريع أو تساهله في حقوقه، إنه العين الثانية والضمير الثاني والخط الدفاعي الأول.
في زمن تتكاثر فيه منصات النشر، وتزداد فيه المنافسة، ويضيع الكثير من النصوص في الزحام، لا بد ممن يتحدث باسم النص حينما لا يستطيع النص أن يتحدث. الوكيل الأدبي ليس من يتكلم فقط، بل هو من يُصغي أيضًا، يصغي لصوت الكاتب، ولما تقوله الصناعة؛ ولذلك فإن غياب الوكيل الأدبي في مشهد النشر ليس مجرد فراغ إداري، بل خلل ثقافي؛ لأنه يعني أن النصوص تُترك لتدبّر مصيرها وحدها، وأن الموهبة لا تجد دائما من يحميها، وأن الكاتب لا يجد دائما من يؤمن به قبل أن يؤمن به القراء.
الوكيل الأدبي ضرورة لمستقبل الكتابة العربية، لا بوصفه رفاهية، بل بوصفه حماية وتأهيلاً ومرافقة، من دونه، نكرر القصة نفسها: كاتب موهوب، نص ممتاز، ومصير مجهول. وإذا كانت الترجمة جسرًا بين اللغات، فإن الوكيل الأدبي هو الجسر بين النص والعالم، جسر قد لا يُرى، لكنه الجسر الذي يَعبُر عليه المعنى من العزلة إلى الحياة.
** **
- د.عبير علي الجربوع